[معنى التعريض والفرق بينه وبين الكذب]
التعريض يسميه علماء البيان: التورية، والتورية: هي أن يكون للكلمة معنيان: معنىً قريب، ومعنىً بعيد، إذا قلت الكلمة خطر على بال السامع المعنى القريب، وأنت تقصد المعنى البعيد.
مثلاً لو قلت لي: تفضل كل، فقلت لك: إني صائم، كلمة صائم إذا سمعها أي إنسان ما الذي يخطر على باله؟ يخطر على باله أنني صائم عن الأكل والشرب، وقد أقصد أنني صائم عن اللغو، أو صائم عن الرفث، كما جاء على لسان مريم عليها السلام: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم:٢٦] فعبر عن الكلام بالصوم، وكل شيء تنطق به يمكن أن تعبر عنه بالصوم؛ لأن الصوم في الأصل هو الإمساك.
وهذا حدث لـ أبي هريرة رضي الله عنه، أنه نزل مرة على جماعة وكان يكره طعامهم، فقالوا: اقعد يا أبا هريرة وكل معنا، فقال: إني صائم، فلما كان في عصر ذلك اليوم رأوه يأكل فقالوا: كيف يا أبا هريرة تأكل وقد قلت إنك صائم؟ قال: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام ثلاثة أيام من كل شهر فكأنما صام الدهر كله).
فهو رضي الله عنه يصوم الثلاثة الأيام من كل شهر، فيعتبر صائماً كل الدهر.
فهو صائم باعتبار ذلك الفهم، لا أنه صائم عن الأكل كما فهم الناس، فلا يقال: إنه كذب، إنما يقال: إنه عرّض بالكلام.
الكلام له وجهان: وجه قريب، ووجه بعيد، إذا قيل الكلام فهم السامع منه الوجه القريب، وأنت إنما تقصد المعنى البعيد الذي لا يخطر على بال السامع.
ورد أن أحد الخلفاء أراد أن يقلد سفيان الثوري منصب القضاء، وسفيان الثوري أحد الأئمة الأعلام الذين حفظ الله عز وجل بهم هذا الدين- وكان يأنف القرب من المناصب، ويرفض القرب من هؤلاء الأمراء.
وكما قال أحد السلف: إنك ما أصبت من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من دينك ما هو أعظم، فاقترب منهم قد تأخذ مالاً أو سيارة أو منصباً، وإذا أشرت بيدك قعد الناس وقاموا، لكنه مقابل هذا قد ترى الرئيس أو الأمير يظلم وأنت ساكت، ولا تستطيع أن تنكر؛ لأنه قد أعطاك أشياء كانت سبباً في سكوتك، بل قد يظلم وتكون عوناً له في هذا الظلم، وتفعل هذا من باب المجاملة، وكونه قد تفضل عليك بأشياء كثيرة.
فكلما أعطاك من هذه الدنيا الفانية التي لا قيمة لها، كلما أخذ في مقابله ما هو أعظم من هذا الذي أخذته منه، لذلك كان السلف يأنفون القرب من الحكام، مع أن أمراء ذلك الزمان كانوا هم حكام الدنيا والدين، وكانوا يدينون بالإسلام، ومع ذلك فعلماء السلف كانوا يكرهون أن يقتربوا منهم.
فأراد أمير المؤمنين أن يحمل سفيان الثوري على القضاء وهو لا يريده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين) لأن القاضي قد يخطئ، وقد يجامل، وقد يحكم على إنسان وهو غضبان، مع أنه لا يحل له أن يحكم وهو غضبان، ولأنه قد يعتريه ما يعتري البشر من الغضب والرضا، ومن الخطأ، ومن المجاملة، ومن قسوة القلب، وكل هذا يؤثر على قضائه وحكمه في القضايا.
فأنت مسئول أمام الله عز وجل عن هذا الذي ظلمته: فكان الواحد منهم يخاف على نفسه، لكن أمير المؤمنين أصر على أن يتولى سفيان الثوري القضاء، فهرب سفيان، فأرسل الشرطة وراءه فأحضروه، فلما أتي بـ سفيان الثوري ودخل على الخليفة تظاهر بالجنون، وتحسس السجاد تحسس المجنون، ويقول: بكم اشتريتم هذا؟ ليقول الخليفة: هذا رجل مجنون لا يصلح للقضاء.
لكن ما كان يغيب على أمير المؤمنين سمعة سفيان، وأنه إمام رباني، انتشر ذكره في الناس بكل خير، ففي مرة من المرات كان سفيان مع أمير المؤمنين، وجعل أمير المؤمنين يتحدث عن القضاء، فخاف سفيان أن يوليه القضاء، فاستأذن في الخروج لقضاء الحاجة، فقال الخليفة: إنك إن خرجت لا تأتينا يا سفيان، قال: والله لآتينك، فانطلق حافياً، ثم خرج ورجع سريعاً فقال: نسيت حذائي.
فلبس حذاءه وخرج ولم يرجع، فقال الخليفة: أين الرجل لقد أقسم أنه سيجيء؟ قالوا: نعم قد رجع فأخذ حذاءه وانصرف.
فهذا من المعاريض.
أراد أمير المؤمنين أنه بعد أن يرجع سفيان يقوم بتوليته القضاء، لكن سفيان كان فاهماً ما يريد منه الخليفة، ولأنه لم يأذن له بالخروج إلا بعد أن أقسم بأنه سوف يعود، فعمد سفيان إلى حيلة وهي أنه خرج بدون حذاء؛ ثم رجع وأخذ حذاءه وانصرف، حتى يبر بقسمه.
وهذا الإمام المروذي أحد أصحاب الإمام أحمد بن حنبل رحم الله الجميع، كان عليه دين لبعض الناس، فلما جاء صاحب الدين ليطالب المروذي قبل أن يصل خرج المروذي من بيته ودخل بيت الإمام أحمد، وقال للإمام أحمد: سيأتيني الرجل يطلب دينه وليس عندي مال، فقال: ادخل.
فجاء الرجل فطرق باب الإمام أحمد ثم قال له: المروذي هنا؟ فإن قال له: نعم إنه هنا لفائدة من هربه.
فقال الإمام أحمد وأشار إلى كفه ما يفعل المروذي هنا وأشار إلى كفه، فظن الرجل أنه يمكن أن يكون في البيت، فالإمام أحمد إنما أشار إلى كفه، والمروذي ليس في كفه، فهذا اسمه تعريض، وهو يشبه الكذب ولكنه يختلف عن الكذب في الحكم، فهذا التعريض إنما يكون في المباح.
أما أن تعرض لأجل أن تأكل حقوق الناس، فهذا كذب وليس بتعريض، ولذلك فالمسلم الذكي العاقل هو الذي يستفيد من هذه المعاريض في إصلاح بيته، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج الضلع أعلاه) والضلع: هو العظم الذي في رأسه ميل واعوجاج، فالمرأة خلقت معوجة في طباعها وأخلاقها، مثل المكان الذي خرجت منه وهو الضلع.
(إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاقبلوهن على عوج)، لو علم المسلم هذه الحقيقة، لعرف كيف يتعايش مع الزوجة بدون مشاكل، امرأة خلقها الله معوجة، فإن أردت أن تقيمها فلا تستطيع، وإنما تتعايش معها مع بقاء العوج فيها؛ لأنها مجبولة على ذلك، ويكون التعايش مع المرأة بالمداراة، وبالمعاريض، وبالصبر عليها، خاصة إذا كانت الأخطاء التي تصدر من المرأة لا تخالف الشرع، وإنما أخطاء لا تنفك عنها الحياة الزوجية.
ولا يستطيع الرجل أن يفعل أفعال المرأة أبداً، لماذا؟ لأن الرجل مجبول على شيء والمرأة مجبولة على شيء آخر، فلذلك الأئمة يقولون في هذا الحديث: إن فيه مداراة المرأة، بمعنى: أن على الرجل أن يقبل منها الشيء من غير تضجر، وله أن يكذب عليها -ليس الكذب المطلق- كما في حديث أسماء بنت يزيد: (ثلاث من الكذب لا أعدهن كذباً كذب الرجل على امرأته) قال الإمام النووي رحمه الله: أما كذبه عليها لأجل أن يأكل حقها فهذا حرام بالإجماع، كأن يأخذ الذهب الذي هو ملكها ويقول لها: عندي مشروع وأريد منك الذهب، وأول ربح أدفعه لكِ وهكذا، وهو ينوي في ضميره أن لا يرده إليها، فهذا حرام عليه أخذه منها؛ لأنه ملكها، وقد يكون صداقها الذي به استحل فرجها، والصداق هو أطيب مال المرأة، فيأخذه ولا ينوي إرجاعه، فهذا يعد كذباً محضاً، وهو حرام بالإجماع.
فهذا الذي فعله إبراهيم عليه السلام يعد من المعاريض ولا يعد من الكذب، لذلك قال الإمام القرطبي والإمام الحافظ ابن حجر: إن هذه ليست كذبة، إنما هي كذبة من باب اللغة فقط، يعني من باب التسمية اللغوية فقط، فبعد أن اعتذر إبراهيم عليه السلام عن أن يشفع لهؤلاء الناس قال: اذهبوا إلى موسى.