للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مخالفة المبتدعة لأصول أهل السنة]

وقبل أن تفكر في توحيد الكلمة بين المسلمين وحِّد عقيدتهم، إذ كيف تجتمع مع رجل يقول: إن الله في كل مكان، وينكر أن يكون الله على العرش؟! وكيف تجتمع مع رجل يقول: إن الله لا يسمع، ولا يبصر، ولا يتكلم، ولا يرى؟! ويوجد في بعض الفرق المنتسبة إلى الإسلام من يقول هذا، حتى قال القائل من أهل السنة: (إن المجسمة يعبدون صنماً والمعطلة يعبدون عدماً).

المعطلة الذين لا يثبتون لله صفة؛ لأن إثبات الصفة عندهم يستلزم منه وجود الجارحة، فلما قال هؤلاء هذه المقالة، تطرف آخرون ضدهم، فأثبتوا الجارحة لله، والجارحة: هي العضو؛ فإذا كان يتكلم فلا بد من لسان وشفتين وأسنان ولهاة وفك وحنك، وإذا كان يرى فلا بد من عين وحدقة إلخ، وإذا كان يسمع فلا بد من صماخ أذن ونحوه.

فالذي يسمع عند المجسمة له أذن مجسمة، وفي المقابل المعطلة الذين يقولون: لو أننا قلنا: (يسمع) لزم أن نقول بالتجسيم، فينفون عنه السمع، فهؤلاء يعبدون صنماً، وأولئك يعبدون عدماً، وأهل السنة هم الطريق الوسط، يثبتون الصفة لله تبارك وتعالى، ثم يقولون: كما يليق بجلاله.

فأنت كيف تضع يديك في يد رجل، كلما جاءت آية من آيات الصفات، أوَّلها أو عطَّلها، وكلما جاء حديث من أحاديث العقائد أنكره ورده وقال: حديث آحاد؟! فالمبتدعة أصلوا أصولاً لأنفسهم؛ ليجادلوا أهل السنة بها، فالواحد منهم يقول وفقاً للأصل: أنا لا أنازعك فيما تقوله الآن؛ لكن أنازعك في الأصل الذي أصلته، فأنا لا أقبل عقيدة جاء إثباتها بخبر آحاد، فنقول: من سلفك في هذا الأصل؟ بل نقولها بكل تواضع: نتحدى من يأتي بحديث أو واقعة صحيحة، تذكر أن صحابياً روى حديثاً في العقيدة والصفات والأسماء لصحابي آخر فرده عليه بخلاف الأحكام الشرعية، فالصحابة اختلفوا كثيراً جداً في الأحكام الشرعية، ولم يختلفوا قط في أحاديث التوحيد والأسماء والصفات، فمثلاً: عندما روى أبو سعيد الخدري الحديث الذي رواه البخاري صحيحه وهو حديث الشفاعة، وفيه قال: (فيكشف الله عن ساقه)، وقد جاءت في القرآن الكريم م نكرة، ولم تنسب إلى الله عز وجل، في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:٤٢]، ولكن نسبت في حديث النبي إلى الله عز وجل، وكلامه مبين للقرآن الكريم، كما رواه أبو سعيد الخدري، فقال: (فيكشف الله عن ساقه) والضمير يعود على لفظ الجلالة، فهل هناك صحابي اعترض على أبي سعيد وقال: كيف تقول هذا الكلام؟! ومن الذي روى معك هذا الكلام؟! بينما إذا أردت أن تقف على عشرات بل مئات الأحاديث التي تضمنت أحكاماً فرعية، واعترض بعض الصحابة على بعض فيها، فدونك أحاديث السنن والصحاح، فهذه السيدة عائشة رضي الله عنها لها اعتراضات وانتقادات كثيرة على كثير من الصحابة والزركشي له كتاب (الإجابة على ما استدركته عائشة على الصحابة) أتى باستدراك عائشة على كل صحابي ممن استدركت عليهم؛ حتى أنها استدركت على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وهؤلاء السادة.

فمثلاً: عندما روى عمر بن الخطاب حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه) قالت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح البخاري: (إنكم لا تحدثوني عن كاذبين -وهما عمر وابنه- ولا مكذَّبين، ولكن السمع يخطئ) إن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك في يهودية قال: (إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب) إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه.

وقد رد أحد العلماء بهذا الحديث الأخير عليها رضي الله عنها، إذا لا يعذب الله حتى الكافر على ذنب لم يرتكبه، والكافر والمؤمن في هذه المسألة سواء، فلا يعذب أحد بذنب الآخر.

ولا ينتقد على هذا الكلام بقول الله تبارك وتعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:١٣] فيقال: إنهم حملوا أثقال غيرهم؛ لأن هذا في الذين ضلوا وأضلوا، فهو عندما أضل غيره أذنب، فهو ذنبه في الحقيقة حينما ضل وذنبه حينما أضل، ولكن لا يزيد الله الكافر عذاباً بذنب لم يجنه ولم يكن له فيه يد، وهو والمؤمن سواء؛ فلا يعذب أحد بغير ذنب فعله.

وهكذا أيضاً انتقاد أبي هريرة رضي الله عنه على ابن عباس في حديث الوضوء مما مست النار، وإنكار الصحابة على عثمان رضي الله عنه في إتمامه الصلاة بمنى، وإنكار أبي سعيد الخدري على أبي موسى الأشعري في جملة السلام، وهكذا.

فكثير من الأحاديث في الأحكام الشرعية اعترض بعضُهم على بعض فيها وردوها؛ لكن لم يفعلوا ذلك في حديث توحيد أو حديث عقيدة على الإطلاق، فدل على أن حديث الآحاد كان يُتَلَقى بالقبول، لا سيما أحاديث العقيدة، فإنها كانت تُتَلَقَّى بالقبول عند الصحابة، ولا أدل على ذلك -ولا يجادل في ذلك إلا مكابر لا يذعن للحق- من حديث الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل معاذ بن جبل وحده إلى اليمن فقال له: (إنك تأتي قوماً أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)، وهذا عقيدة؛ فلو أن أهل اليمن لم يسمعوا لـ معاذ، لكانوا كفرة، ولو كان خبر الواحد في العقيدة لا تقوم به حجة، لما جاز تكفير هؤلاء، وقد اتفق جمهور المسلمين على أن الإمام المسلم لو أرسل نذيراً إلى بلاد الكفر، يدعوهم إلى التوحيد، فردوا دعوته، فإنهم كفارٌ، ويجب عليه قتالهم بناءً على إرسال فرد واحد، ولو كانت عقيدة التوحيد لا تقوم بحديث الواحد، لما جاز أن يكفر هؤلاء، ولا أن تنتهك أموالهم وأعراضهم.

والأدلة على ذلك تطول بنا، والمقصود أن هؤلاء المبتدعة عندما رأوا قوة أدلة أهل الحق وعلموا أن أصولهم الفاسدة لا تقوى على الوقوف أمام أصول أهل الحق، لجأوا للنصوص التي تحتمل ظواهرها عدة معانٍ، فاختاروا المعنى الذي يؤكد أصلهم، وأتوا عليه بخيلهم ورَجِلهم، وصاروا ينافحون عنه بقضهم وقضيضهم.