الإمام الشافعي رحمه الله، كان بلا شك عند جميع العلماء أفضل من محمد بن الحسن الشيباني، فـ محمد بن الحسن الشيباني ليس مجتهداً مطلقاً، حيث كان ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة، أما الشافعي فقد كان مجتهداً مطلقاً، ومع ذلك لمّا أراد الشافعي رحمه الله أن يأخذ فقه أهل العراق ذهب إلى محمد بن الحسن الشيباني، وجلس أمامه بسمت تلميذ، حتى أن الشافعي -وقد كان يخالف كثيراً من فتاوى محمد بن الحسن - من أدبه أنه لم يبادر بالاعتراض على الأستاذ، لكن إذا قام محمد بن الحسن الشيباني ناظر التلاميذ، وأظهر لهم أنه أخطأ في المسألة؛ لأن فتواه مخالفة للحديث، ويسوق الأسانيد المتكاثرة بأن المسألة خطأ ومخالفة للأثر، فكانوا لا يجدون جواباً، وكان الشافعي يظهر عليهم كل مرة، فشكوا ذلك إلى محمد بن الحسن فعندها قال له: محمد بن الحسن: إنه بلغني أنك تعترض، وأنك قلت كذا وكذا، فناظرني، فقال له الإمام الشافعي: إني أجلُّك عن المناظرة! لاحظ الأدب! قد يكون التلميذ في يوم من الأيام أعلم من شيخه أو أستاذه، لكن لا يحمله ذلك على أن يهضم حق شيخه الذي فتح ذهنه على طلب العلم، مهما كان حجم أستاذه ضئيلاً، فالنبلاء يحفظون الجميل، فقال له: لابد لك من ذلك، فناظره الشافعي فظهر عليه؛ لأن الشافعي كان عنده الاهتمام بالحديث والأثر أكثر من أهل العراق.
ثم تناظروا في الماء المطلق، فقال له الشافعي رحمه الله بعد انتهاء البحث:(إنكم لتقولون في الماء قولاً) انظر لكلام الشافعي، والحقيقة أنه قال كلمة شديدة في محمد بن الحسن الشيباني، ولكنه صاغ الكلمة في أسلوب جميل، تسمعونه فلا تشعرون أنه طعن فيه، قال له:(إنكم لتقولون في الماء قولاً لعله لو قيل لعاقل: تخاطأ، فقال بقولكم، لكان قد أحسن التخاطؤ).
لاحظ، قد تظن أن الكلمة رقيقة، وهي في منتهى الشدة، ملخصها أنه قال له: إنكم لتقولون في الماء قولاً، لو قيل لعاقلٍ: ادَّعِ الجنون، فمثّل دور المجنون، لما فعل أحسن من قولكم في الماء، لاحظ فإنه كلام شديد جداً.
وكان محمد بن الحسن الشيباني سميناً بديناً، فكان الشافعي يقول:(ما أفلح سمين قط إلا محمد بن الحسن)، وكان يقول:(إن العلم يُزيل الدهن (لأن المعتاد أن طالب العلم الجيد يكثر من السهر، ومن كثرة استغراقه في الطلب باستمرار يضمر، لكنه مازال محتفظاً بهذا السمن، فمعنى ذلك أنه يأكل جيداً وينام جيداً، وهذا ينافي ما كان عليه العلماء، كما روى مسلم في صحيحه عن يحيى بن أبي كثير قال: (لا يستطاع العلم براحة الجسد)، وطالب العلم يحتاج إلى قوة أكثر للجسد حتى يتحمل روحه الفتية التي تحرمه النوم.