[الذكاء وأهميته في طلب العلم]
أول هذه الصفات: الذكاء.
وهذا شيءٌ بدهي؛ لأن العلم لا يسلم قياده لبليد، والعلم واسع جداً، وليس له قرار وليس له قعر، والشيء الذي يموت الإنسان وهو مدين به الجهل، فقد يموت وهو أغنى الناس، وقد يموت وهو أعظم الناس سلطاناً، ولكن كل إنسان يموت وهو مدين بجهله، فلا يمكن لإنسان أن يصل إلى قعر العلم.
الإمام ابن جرير الطبري -الإمام المفكر الكبير صاحب التاريخ المشهور- له مذهب -وإن كان هذا المذهب قد اندثر- وكان يطلق عليه: المذهب الجريري، وهذا اطراد أنه لم يكن شافعياً، لم ينتسب إلى الشافعي، وإنما كان صاحب مذهب مستقل، بلغ من محفوظاته أنه كان يحفظ الألوف المؤلفة من الأحاديث والمتون، حتى قال لأصحابه يوماً: تنشطون لكتابة التفسير؟ فقالوا: في كم ورقة يكون؟ قال لهم: في ثلاثين ألف ورقة.
قالوا: هذا مما تفنى دونه الأعمار.
فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ماتت الهمم، فأملاه في ثلاثة آلاف ورقة.
ثم قال لهم: تنشطون لكتابة التاريخ من لدن آدم عليه السلام إلى الآن؟ قالوا: في كم ورقة يكون؟ فقال نحواً مما قال في التفسير.
فقالوا: هذا مما تفنى دونه الأعمار.
فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ماتت الهمم.
فأملاه في نحو قدر التفسير.
هذا الإمام -مع سعة علمه- لما دخل عليه بعض أصحابه وهو يحتضر، تذكر مسألة في الفرائض، فدعا بصحاف ودواة وقلم ليكتب هذه المسألة، فقال له صاحبه: أفي هذه الحال -أي: وهو يعالج الموت-؟ قال: أموت وأنا عالم بها خير من أن أموت وأنا جاهلٌ بها، وهذا الإمام دونك البحر فاغترف، ومع ذلك يموت وهو يستزيد من العلم.
والإمام مالك رحمه الله تعالى -مع خبرته وسعة علمه، وإطباق الجميع على توثيقه والثناء على سعة علمه- سمعه عبد الله بن وهب -كما في سنن البيهقي- يقول: بأنه ليس على الناس أن يخللوا البراجم في الوضوء -البراجم: هي ما بين الأصابع- قال ابن وهب: فلما خف المجلس -وهذا من أدبه- قال: فقلت له: كيف تفتي بذلك وعندنا فيه سنة؟ قال: وما ذاك؟ فقلت: حدثني عمرو بن الحارث وابن لهيعة وساق سنده إلى المستورد بن شداد (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كان يخلل ما بين الأصابع) فقال مالك رحمه الله: هذا حديث حسن، وما سمعت به إلا الساعة.
قال ابن وهب: فسمعته بعد ذلك إذا سئل عن تخليل الأصابع يفتي بذلك الحديث.
فهذا الحديث ما عرفه الإمام مالك.
إذاً: العلم ليس له قعر، فلا يمكن أن يناله البليد، ومن علامة ذكاء الإنسان أن يبدأ بصغار العلم قبل كباره.
وإني أستغرب عندما يأتي طالب العلم إلى رجل ويقول له: أخبرني بكتاب أبدأ به في الفقه؟ فيقول له: عليك بالمحلى لـ ابن حزم، أو يقول: عليك بنيل الأوطار للشوكاني، أو سبل السلام! وهذه الكتب إنما تعنى بذكر الخلاف، وهذا لا زال مبتدئاً ولا يعرف الراجح من المرجوح حتى تدخله في الخلاف، وعليك أن تصف له كتاباً مختصراً يبدأ بالمسائل المتفق عليها، أما أن يبدأ هذا الرجل الطلب في الكتب التي تعنى بذكر الاختلاف فهو لابد أن يصير إلى حالٍ من هذه الحالات الثلاث: إما أن يسوء ظنه بالعلماء، ويقول في نفسه: لو كان العلماء على حق لما اختلفوا والدليل واحد.
أو أن يتخير من الأقوال ما يعجبه، فيكون بهذا أعمل هواه.
أو يخرج من الكل.
حتى قيل في قوله تبارك وتعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:٧٩]، قيل: (الرباني) هو الذي يعلم بصغير العلم قبل كبيره.
وهذا قول لم يذكر قائله الإمام البخاري، وقول ابن عباس: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:٧٩]: أي كونوا فقهاء حكماء.
قال الإمام البخاري: وقيل: (الرباني): هو الذي يبدأ بتعليم صغار العلم قبل كباره.
وصدق من قال: (غذاء الكبار سم الصغار) أي: لو أن رضيعاً أعطيته قطعة من اللحم فإنه سيموت، وكذلك المبتدئ في العلم لو أعطيته مسألة كبيرة وضخمة فإنها تؤذيه.
ولذلك يكون من ذكاء طالب العلم أن يبدأ بصغار العلم قبل كباره، وأن يبدأ بما يجب عليه عيناً، من معرفة التوحيد حتى يتجنب الشرك، ومن معرفة تصحيح عبادته، ونحو ذلك.
ولكنك قد تجد الرجل لا يستطيع أن يجود كتاب الله عز وجل، وأول ما يبدأ يبدأ بمصطلح الحديث أو بأصول الفقه! إذاً: هذا الرجل ليس بذكي، وهذا يهدر كثيراً من وقته، وأول شيء يجب على طالب العلم أن يمتاز به هو الذكاء.