[الثقة في موعود الله يعين الداعية على أداء رسالته]
المتحصن بالعلم ليس كالجاهل، فأول ما ينبغي أن يتحلى به الداعية: الإخلاص؛ ثم الثقة في وعد الله عز وجل إذا جاءه من طريق قطعي لا يتطرق إلا ثبوته شك فلا يحل له أن يتوقف -مثل القرآن- بل عليه أن يثق أن الله ناصره مهما خذله الناس، ومهما كان وحيداً فريداً، فإذا قرأ في القرآن: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:٢١]، فليعلم أنه غالب ما استقام على أمر الله عز وجل، فإذا قرأ قول الله عز وجل: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:٢١]، فليعلم أنه متى استقام على أمره غلب ولو بعد حين، ولو كان وحيداً فريداً.
أحد مشايخ الصحوة سجن سنة (١٩٨١م) حين أصدر أنور السادات أمراً بالاعتقالات الجماعية، وهذا الداعية ناله الحظ الأوفر من شتائم رئيس الجمهورية آنذاك، ووصفه في الخطاب الرسمي بأنه كالكلب ملقى في الزنزانة، والذي دخل السجن يعرف أن رتبة مأمور السجن كله عقيد، لكن وزارة الداخلية آنذاك عينت على زنزانة هذا الداعية عميداً، وهذا كله من قبيل التشديد على هذا الداعية وإذلاله، يريدون أن يقطعوا عنه كل شيء، هذا العميد الذي عُين كان من المعجبين بهذا الداعية، فكان كل يوم وهو آتٍ لهذا الداعية يجلب معه دجاجة مشوية ويدخلها له ليأكلها، هل تتصور هذا الكلام، انتخبوه وهو رجل قاسٍ، لا يجامل، لا يداهن لكن الأمر كما قال الله عز وجل: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:٥٦]، سخر الله ذلك العميد لهذا الداعية، وأوقفه في ذلك المكان.
فلما سئل الداعية عن أيام الحبس الانفرادي قال: كانت كنار إبراهيم: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:٦٩]، الرجل لم ينعم في حياته إلا في تلك الأيام، كان يأكل دجاجاً مشوياً كل يوم، ومن الذي يدخل له هذه الدجاجة المشوية؟ إنه الرجل الذي جلبوه ليؤدبه.
مثل موسى عليه السلام: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:٨]، هم ما اتخذوه ليكون عدواً وحزنا إنما اتخذوه ليكون قرة عين، فكان لهم عدواً وحزناً، قال تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص:٩]، وهم لا يشعرون أنه لهم عدو وحزن كأن تقول: فلان تزوج في الدنيا ليشقى، وهل هناك أحد يتزوج ليشقى؟! نعم، قد يبتليه الله بامرأة ناشز فيشقى بها، إذاً: الكلام فيه محذوف، تزوج فلانٌ ينشد السعادة فشقي، وهذا مثل قول القائل: لدوا للموت وابنوا للخراب فكل امرأةٍ تلد إنما تلد للموت، وكل بانٍ يبني إنما يبني للخراب، إذاً: هل المرأة حملت وأرضعت وولدت ليموت أم ليعيش فمات؟ ليعيش فمات.
ولذلك تحزن المرأة جداً إذا حملت وتعبت وولدت الولد ميتاً، فيقال: حملت وولدت ليموت! فالرجل إذا تصدر الدعوة إلى الله عز وجل وكان مستقيماً على أمر الله فليثق يقيناً بنصر الله عز وجل، ومن تمام ثقته بنصر الله عز وجل: ألا يعتمد قلبه إلا على الله، وييئس من نصر الجماهير له، ولا يزعجه قلة الأتباع إذا كان ذا منهجٍ مستقيم، وأنا أركز دائماً على المنهج المستقيم؛ لأن الجماعة المبتدعة مثل جماعة الهجرة والتكفير حتى الآن وأتباعهم قلة، يقول لك: يا أخي! الرسل كان أتباعهم قلة، وأي شخص مبتدع حوله خمسة أو ستة يقول لك: الكثرة ليست مهمة، فالرسل كان أتباعهم قلة، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم المعروف في الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: (يأتي النبي يوم القيامة ومعه الرهط -من الثلاثة إلى العشرة- ويأتي النبي ومعه الرجل، ويأتي النبي ومعه الرجلان، ويأتي النبي وليس معه أحد)، النبي الذي ليس معه أحد، ظل طيلة حياته يدعو وخرج من الدنيا صفر اليدين من الأتباع، ولكن لا يعني ذلك أنه كان مخطئاً في دعوته، فالجماعة المبتدعة يحتجون بهذا الحديث، يقولون: هؤلاء الأنبياء يأتون وليس معهم أحد فنحن هكذا، والنبي صلى الله عليه وسلم لما دعا المسلمين في قريش ما كان حوله إلا ثلة (لا يزال الإسلام غريباً) (لا تزال طائفةٌ من أمتي) ويستدلون بهذه الأحاديث.
نقول له: لا.
الغربة غربتان، غربةٌ محمودةٌ وغربة مذمومة، أما الغربة المحمودة كأن يكون مستقيماً على أمر الله ولا يضره كثرة الأتباع من قلتهم، أما إذا كان منحرف المنهج وتخلى الناس عنه كأن يبقى معه واحد أو اثنان أو ثلاثة فهذه غربة مذمومة، فالفيصل ما بين صاحب الغربة المذمومة وصاحب الغربة المحمودة هو الاستقامة على المنهج الحق.
إذاً: متى استقام الداعية على أمره تبارك وتعالى نصره، ويجب عليه ألا يشك لحظة في هذه الثقة بالله تبارك وتعالى.
إذا تسلح الداعية إلى الله عز وجل بهذين السلاحين الماضيين وضم إليهما العلم فقد أحرز كل عدة.
إذاً: الإخلاص هو أول عدة الداعي إلى الله عز وجل.
ثانياً: الثقة في وعد الله عز وجل بالنصر.
ثالثاً: العلم.