[الهجرة في سبيل الله نجاة من الاستضعاف]
إن المهاجر في الله عز وجل له أجر عظيم، لو تفطن له كثير من العباد لهانت عليهم دورهم وأموالهم في الله الهجرة هي علاج الاستضعاف، إذا كنت مستضعفاً فهاجر، استبدل بيئة غير البيئة التي حاربتك وأذلتك ووقفت ضد دعوتك؛ لعلك تجد أناساً آخرين أرفق بك وأرحم من الذين ولدت بينهم اترك دارك لله إن استطعت إذا كنت في بيئة يسب فيها الله ورسوله، أو يعصى فيها الله عز وجل، وتخشى على نفسك وعلى أولادك؛ فينبغي بل يتعين عليك أن تهاجر، وهذه هي الهجرة التي لا تنقطع إلى يوم القيامة.
روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال الهجرة ما قوتل الكفار)، فهذه هي الهجرة التي لا تنقطع، وهي علاج الاستضعاف.
روى النسائي وابن ماجة بسند حسن، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (شهد النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من أهل المدينة مات في المدينة -ولد في المدينة ومات بها- فقال عليه الصلاة والسلام: يا ليته مات في غير مولده -يعني: يا ليته مات غريباً- فقالوا: لِم يا رسول الله؟ قال: إن الرجل إذا مات في غير مولده قيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة)، هذا يكون ملكه، رجل هاجر من مصر -مثلاً- إلى آخر الدنيا، فراراً بدينه من الفتن، ومات غريباً؛ فإنه يقاس له في الجنة من موضع مولده إلى موضع وفاته.
ولذلك نهي المهاجرون أن يرجعوا إلى مكة أو يسكنوا بها؛ حتى لا يرجعوا في شيء خرجوا منه لله عز وجل، ولم يرخص لمهاجري أن يبقى في مكة أكثر من ثلاثة أيام، وفي الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (مرضت في حجة الوداع مرضاً أشرفت فيه على الموت، فزارني رسول الله صلى الله عليه وسلم -وساق حديثاً طويلاً، وفي آخره- قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم امض لأصحابي هجرتهم، اللهم لا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة مات بمكة)، سعد بن خولة مات بمكة، فوصفه النبي عليه الصلاة والسلام: بـ (البائس)؛ لأنه فقد أجر الموت غريباً، وخسره؛ لأنه مات بمكة: (لكن البائس سعد بن خولة مات بمكة، يا ليته مات بالمدينة، يا ليته مات غريباً).
وفي صحيح مسلم في إحدى طرق هذا الحديث قال سعد: (وأخشى أن أموت فأكون كما كان سعد)، لقد كان يخشى على نفسه أن يموت بمكة، وهو في طاعة في زمن حجة الوداع؛ لأنه سوف يفقد أجر الموت غريباً، فإذا كانت الأرض لله عز وجل فما يضيرك أن تموت في أقصى الأرض؟ إن الله عز وجل يقول: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:٥٦] * {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [العنكبوت:٥٧]، مت في أي مكان لكن على التوحيد، مت مسلماً ومت في جوف سبعٍ أو في قعر بحر، أو في أي مكان، لا يضرك: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت:٥٦]، فلا تتردد أن تخرج إلى الهجرة؛ لأن: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:٥٧].
بعض الناس يوصي ألا يدفن ليلاً؛ لأنه يظن أن القبر كالدنيا فيه نهار وليل، يظن ذلك، ويظن أنه لو دفن ليلاً فسيشعر بالوحشة، لا والله ليس في المقابر ليل ولا نهار، كله ليل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذه القبور ملآنة ظلمة على أهلها، وإن الله عز وجل ينيرها لهم بصلاتي عليهم)، فكلها مظلمة، لكنه يظن كما يستوحش إذا أفرج إفراج الساري في الليلة الظلماء في الدنيا أنه يكون كذلك في القبر.
فالخوف من هذه الوحشة هو الذي جعل هؤلاء يبقون في دارهم ولا يهاجرون، ويلابسون أصحاب المعاصي حتى تأثرت قلوبهم، ثم وافوا الله عز وجل بقلوب مريضة أو ميتة، فقال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} [النساء:٩٧]، فهذا الاستضعاف المذموم يكون مع القدرة على الخروج والهجرة.
أما العاجز فإن الله عز وجل قد وضع كل أمر أمر به أو نهي نهى عنه إذا خرج عن مقدور العبد، كما ثبت ذلك في القرآن والسنة، قال الله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦]، وقال عز من قائل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:٧]، وقال عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:٧٨]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به).
الاستضعاف المحمود: أن تنحاز إلى الله؛ لذلك قال الله عز وجل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} [القصص:٥]، فلا يمن الله إلا على عبد انحاز إليه، ولذلك أراد ففعل، والله عز وجل إذا وعد فلا يخلف وعده، وإذا أوعد فهو بالخيار، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا وعد الله عبداً على عمل أجراً فهو منجز له ما وعد، وإذا أوعد عبداً فهو بالخيار)، إذا هدده فهو بالخيار: إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، وهذا من فعل الكرام: إذا وعد لا يخلف الميعاد؛ لأن هذا هو مقتضى الكرم والإحسان؛ لأن الرجوع في الإحسان نقص.