للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإخلاص والصوم]

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:١] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:٧٠ - ٧١].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن الله تبارك وتعالى أنه قال: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به) ولقد علمنا علماً أكيداً أن الصوم أيضاً لابن آدم، كالصلاة والزكاة والحج وسائر أعمال البر، كلها لابن آدم، كما أن الصلاة أعظم من الصيام، ومع ذلك استثنى الله عز وجل هذه الشعيرة، فقال: (الصوم لي وأنا أجزي به).

فلماذا خص الصوم دون سائر أعمال البر؟ إن الصيام تحقيق لمقام الإحسان، وهو أيضاً تحقيق لمقام الإخلاص، فإن المرء قد يرائي في كل أعمال البر، لكن لا يستطيع المراءاة في الصوم أبداً.

ألم تر إلى نفسك وأنت وحدك في بيتك، لا أحد معك، وقد أغلقت عليك باب الغرفة، وفي الغرفة ماء بارد، ويكاد يقتلك العطش، ومع ذلك لا تستطيع أن تفطر أبداً؟ هذا هو تحقيق لمقام الإحسان! إن جبريل عليه السلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فأجابه صلى الله عليه وسلم وقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) هذا هو تحقيق مقام الإحسان، فإن الصائم لا يستطيع أن يرائي أبداً بصيامه، بل يستطيع أن ينال مراده وهو وحده، بخلاف بقية أعمال البر.

إن طائفة من الناس قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (ولا يشهدون الفجر والعشاء) وقال: (أثقل صلاتين على المنافقين الفجر والعشاء) مع أن للفجر والعشاء شأناً عظيماً! قال صلى الله عليه وسلم: (من شهد العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل) وكان عبد الله بن عمر إذا فاتته صلاة العشاء جماعة قام الليل كله؛ ليعوض الأجر الذي فاته بشهود الجماعة وقال صلى الله عليه وسلم: (من صلى الصبح في جماعة فكأنه قام نصف الليل)، وفي رواية أخرى: (فكأنما قام الليل كله) وفي صلاة الصبح قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تشهده ملائكة الليل والنهار).

ومع هذا الأجر الجزيل يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أثقل صلاتين على المنافقين الفجر والعشاء، ولو أن أحدهم يعلم أنه يأخذ مرماتين حسنتين لأتاهما حبواً).

لو تم إلحاق جمعية لتوزيع السكر والأرز وما شابه ذلك بالمسجد، فإن هذا المنافق يحبو على بطنه حتى لا تفوته هذه العطية المجانية، ويضيع ما هو أعظم، فهو بهذا قد راءى في أعظم الأركان العملية وهي الصلاة.

وكذلك يمكن للمرء أن يرائي في الزكاة أو في الحج، بل إن بعض من يذهب إلى الحج إذا رجع منه ولم تناده بلقب: (يا حاج) يغضب.

وهكذا تكون المراءاة في سائر أعمال البر إلا في الصيام، لذلك قال الله عز وجل: (هو لي، وأنا أجزي به) ولم يعين على الصيام أجراً؛ لأنه إذا وقع الجزاء على كريم فلا تسأل عن العد، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:١٠٠] ولم يعين له أجراً؛ لأن هذا الوعد بهذه الكيفية أعظم أثراً من تعيين الأجر.

ولما أراد إخوة يوسف عليه السلام أن يتخلصوا من الورطة التي وقعوا فيها، وقد اتهموا بسرقة صواع الملك، {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ *

الجواب

=٦٠٠١٦٧٠> قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف:٧٤ - ٧٥] فأبهموا الجزاء، كأنهم قالوا: كل ما يخطر ببالكم من الجزاء هو حقيق به، فكان إبهام الجزاء أعظم في تقدير الجزاء من تعيينه.

ولأن هذه الشعيرة فيها تحقيق مقام الإخلاص، قال الله: (هي لي) فلا يستطيع أن يجزي على الإخلاص إلا الله، والإخلاص في العبادات شرط وفرض تحبط العبادات بدونه.