[النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه مع الصحابة]
وقد حفظ لنا جابر بن عبد الله الأنصاري قصةً رائعة جداً في صحيح البخاري قال: (غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة، فبينما نحن قافلون إذ أعيا ناضحي تحت الليل -الناضح: الجمل- وأرهقه السير، فجعل يضربه حتى يستنفره فلم ينفر الجمل، فجعل يقول: ما زال لنا ناضح سوء.
قال: فإذا بي أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من هذا؟ قال: فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول جابر.
قال: ما دهاك؟ قال: أعيا ناضحي تحت جنح الليل.
أمعك عصا؟ فناوله العصا، فضربه فارتدت إليه العافية -إلى الجمل- فركب جابر جمله، وركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته، قال جابر: فجعل الجمل يسبق ناقته، هذا الجمل الذي أعيا يسبق ناقة النبي صلى الله عليه وسلم التي لا تلحق! وفي صحيح مسلم وغيره أن امرأةً أخذت ناقة الرسول عليه الصلاة والسلام وفرت عليها -لعلمها أنه لا يلحقها شيء وكانت المرأة أسيرة- فنذرت إن نجاها الله لتنحرن هذه الناقة جميلاً لها! فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بئس ما جازتها!) يعني: أهذا جزاؤها أن الله عز وجل جعلها سبباً في نجاتها، وهي تريد أن تكرمها بأن تذبحها! فقال: (بئس ما جازتها، لا نذر فيما لا يملك المرء، ولا نذر في معصية الله عز وجل).
المهم أن هذا الجمل يسبق الناقة وجابر يشد خطامه؛ لأنهم كانوا يرون أنه من سوء الأدب أن يتقدم أحد على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ظاهر في رواية البخاري ومسلم أن رجلاً أعرابياً صعد على قعيد -القعيد: ولد الناقة- وأطلقه، فسبق ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، فشق ذلك على الصحابة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل ما رفع شيئاً في الدنيا إلا وضعه) يريد أن يطيب من خاطرهم.
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يتسامر مع جابر، ويتفقد أحواله إلى آخر القصة).
فالحاصل أن من هدي العلماء والأمراء الربانيين أنهم لا يتقدمون في الأمام كما هو واقع في الجاهلية، وفعل الأوروبيين الكفرة الذي أخذه كثيرٌ من المسلمين اليوم، حيث يرون أن في التقدم شيء من الشرف، ويجعلون الكراسي في الأمام، ويكون عن اليمين فلان وعن الشمال فلان، إذا غاب فلان إذاً لابد أن يقعد على الكرسي، حتى أنا رأيت بنفسي أن الصف الأول في المسجد محجوز لجماعة معينة، وإذا أردت أن تأخذ لك محلاً في الصف الأول يمنعونك، وبالفعل منعوا رجلاً رأيته بنفسي، قالوا: هذا مكان الحاج فلان.
والحاج فلان لا يدخل إلا في نصف الخطبة، حتى جعلوا الصفوف الأولى للكبراء بخلاف الهدي المعروف، الذي يجب على المسلمين أن يتوارثوه.
(خرج عبد الله بن مسعود مع أبي موسى الأشعري قال: فاكتنفناه، فقال عبد الله بن قيس: يا أبا عبد الرحمن! لقد رأيت في المسجد شيئاً أنكرته، وما رأيت إلا خيراً) ثم ساق بقية القصة.
الحاصل: أن وجود المشايخ بكثرة كان سبباً مباشراً لأدب طالب العلم، أما أن يتعلم الإنسان من الكتب فقط، ولا يسعى أن يتلقى العلم عن الشيوخ، أو حتى على الأقران الذين سبقوك في هذا المضمار؛ فإن هذا يصيب الأمة -في الحقيقة- بأضرار كثيرةً جداً.
أضرب لكم هذا المثل الخطأ: نحن أعاجم بالنسبة للغتنا العربية، فيأتي الرجل ويفسر القرآن والسنة بما يعرفه من الألفاظ المتوارثة الآن، وهذا لا يجوز أن يفسر بالألفاظ الحادثة بل لا بد أن يفسر القرآن والسنة باللغة التي نزل بها القرآن على العرب، وباللسان الذي كان الصحابة يفهمونه لألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فنحن أعاجم بالنسبة للغتنا العربية.
فإذا دخل رجل المكتبة لكي يقرأ في كتاب فلعله لا يقرأ الجملة صحيحة، وأنا رأيت رجلاً في بعض المسائل كمسألة تقديم اليدين على الركبتين في الصلاة، فيذكر الحاكم في مسنده أثراً عن ابن عمر في أنه يقدم يديه على ركبتيه، ثم قال الحاكم: والقلب إلى رواية ابن عمر أميل؛ لأن في ذلك روايات كثيرة عن الصحابة والتابعين.
فهو يأتي ويقول: القلب أميل.
أي: أن الحديث مقلوب! تصور! الحاكم يقول: القلب أميل إلى رواية ابن عمر لأن له شواهد عن الصحابة والتابعين.
وهذا يقول: الحديث مقلوب ومعنى ذلك أن قلبه يميل إلى ترجيح رواية ابن عمر لأن لها شواهد كذا وكذا.
وليس (القلب أميل) أي أن الحديث مقلوب.
وما غر بعض إخواننا من الشباب إلى انتحال فكر الخوارج أو هذه الأفكار المبتدعة إلا لأنهم عكفوا على الكتب فقط، فأعملوا الكتب بعقولهم هم ولا يقبلون تراجعاً ولا يتنازلون عن فهمٍ فهموه، حتى أوصلتهم الجرأة أن تجرءوا على الأئمة الشافعي وأحمد وغيرهم، بل أنا بنفسي سمعت رجلاً منهم عندما قلت له: قول ابن عباس:) كفر دون كفر) فقال: نحن رجال وهم رجال.
يعني: يجعل نفسه قرين ابن تيمية، وابن الصلاح، والعز بن عبد السلام، ولو ترقى قليلاً وجعل نفسه المزي، وابن مندة، وابن جرير، ثم ترقى قليلاً فجعله نفسه أحمد، والشافعي، ومالك، وهذا لن يعجزه فقد تجرأ على جيل الصحابة مباشرةً، وقال: نحن رجال وهم رجال! فقلنا: إن كنت تقصد الذكورة؛ فنحن لا ننازعك فيها فأنت ذكر، لكن إن كنت تقصد المقام والفهم فشتان! فقد توفرت لـ ابن عباس دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم فقه في الدين، وعلمه التأويل)، فماذا توافر لك أنت؟! فإذا به يلقي هذه المفاجأة التي أنكرها عليه إخوانه أنفسهم، فقال: وما يدريك أن الله استجاب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم؟! تصل به هذه الجرأة إلى هذا الحد؛ لأنه لا يرى من يعقب عليه؛ والسبب إنه يأخذ من الكتب مباشرةً، فيفهم ويكتب ما يريد، ولو تعود أن يقعد لشيخ فإنه يهاب أن يتكلم في حضرته؛ لأنه قد يتكلم خطأً، وقد كان نظام الإجازات قديماً من أقوى الأشياء التي كانت تجعل طالب العلم لا يتكلم إلا بعد علم، وبعد أن يجيز له أستاذه وشيخه، حتى إذا رأى شيخه أخطأ ما كان يهجم عليه.