[هجر المبتدع والعاصي]
لو أن رجلاً مبتدعاً ينشر بدعة في حيك، فلا تسلم عليه، وإذا كنت تعلم أن إلقاء السلام عليه لا يصده عن بدعته فسلم عليه، وتودد إليه، وأعطه بعض الهدايا، وزره في بيته، وأخبره أن هذا لا يحل، ولا يجوز، وابذل معه كل ما في وسعك، فإذا لم ينفع معه كل ما سبق فلم يبق لك إلا أن تهجره ولا تسلم عليه.
فإذا قيل: إن هذا مسلم، أقول: أنا أعرف أنه مسلم، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لما هجر كعب بن مالك كان كعب يلقي عليه السلام، يقول كعب: (فكنت أقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟) والرسول عليه الصلاة والسلام لما أمر المسلمين ألا يكلموا هؤلاء الثلاثة، يقول كعب: (فلما شق علي هجر المسلمين ذهبت إلى حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي، فتسورت الحائط، فوجدت أبا قتادة في بستانه، فألقيت عليه السلام، فوالله ما رد علي السلام، وأبو قتادة من خيار المسلمين، وكعب من خيار المسلمين، فهذا مسلم مع مسلم، فلا يقال إذاً: إن المسلم لا يجوز هجره أو عدم السلام عليه للمصلحة، لا، يقول كعب: (فألقيت عليه السلام، فوالله ما رد علي السلام.
فقلت: يا أبا قتادة! نشدتك الله ألا تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فقال: الله أعلم.
ففاضت عيناي).
فمسألة ترك السلام على المسلم مسألة مشروعة، طالما أن فيه المعنى الذي من أجله هجرته.
إذاً: الزجر بالهجر يرفع البدعة من بيننا.
ولو علم العصاة أنه لا محل لهم ولا عيش في ديار المسلمين؛ لاستخفوا بعصيانهم وراء الجدر، مثلاً: شارع نبوي المهندس هنا شارع قذر، موبوء، كل البذاءات والفواحش موجودة هناك رجال ونساء مختلطون، وأصوات الموسيقى في السيارات تصم الآذان، وأنا أتكلم عن الشارع وليس عن سكان الشارع، فإنه شارع قذر، وكل شارع يمارس فيه العصيان بغير نكير فأهله من تعساء الحظ، لأنهم متاخمون للمعاصي، وإني كلما مررت في هذا الشارع أستعيذ بالله عز وجل، حتى أصبحت لا أكاد أمر فيه من هول ما أرى بالنسبة لبلد كبلدنا.
لا يوجد أحد يقول لي: يا أخي! نحن رضي الله عنا، هذا شارع الهرم والإسكندرية والمصيف والبلازا والكلام هذا؟ لا، نحن نقيس الشوارع بنظيرها عندنا، وفي الآخر محافظتنا تعتبر من الأرياف، ويعتبر إلى حد ما فيها الاستتار والحشمة أفضل من المدن الكبرى مثل القاهرة والإسكندرية والمنصورة وهذه البلاد، وهذا من رحمة الله عز وجل أننا بادون في الأعراب، لا عندنا حضارة ولا مصايف ولا آثار ولا متاحف لكي نبتلى بالعراة الذين يلبسون الميني جب إلى فوق الركب ويأتون يفترجون، لكن هذا الشارع إذا قيس بنظائره من الشوارع الأخرى كان هذا في غاية القبح.
فنحن نقول للآباء الذين عندهم سيارات: اتقوا الله عز وجل، ولا تعصوا الله بالنعمة، تعطي ابنك السيارة ويظل يلعب بها، وهو يشرب السيجارة، ويسمع الديسكو بأعلى صوت يصم الآذان هل هذا هو شكر النعمة؟ أعطاك الله رجلاً تمشي عليها، ثم أعطاك سيارةً تركبها وحرم غيرك من رجله ومن السيارة فأين شكر النعم؟! {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:٧].
إذاً: هجر أهل المعاصي يقلل من وجود المعصية، وكذلك هجر التعامل معهم أيضاً.
فإذا كان هناك رجل غير ملتزم، ويتظاهر بالفسوق والعصيان، وعنده بقالة، أو محل ملابس، فلا تشتري منه، بل اذهب واشتر من عند الملتزم، فإن الملتزم إذا فتح الله عليه سيكفل أسراً جائعة، وسيخرج الزكاة من ماله، فكم من تجار خير فتحوا بيوتاً للفقراء والمساكين، جزاهم الله خيراً، وأسأل الله عز وجل أن ينمي لهم أموالهم، وأن يبارك لهم فيها، فإذا قصدنا أحد هؤلاء التجار لكي يكسي عرياناً، أو يطعم جائعاً، أو يكفل أسرة فقيرة، فلن يتأخر أبداً.
وعندما تذهب وتشتري من عند رجل ملتزم بضاعة أغلى مما هي عند الرجل الفاسق وتحتسبها لله عز وجل، يبارك لك فيها.
كذلك إذا احتسبت القيمة الزائدة عند هذا الرجل؛ لأنه يزكي ويطعم الفقراء والمساكين، فقد تكون شريكاً له إذا ربح، فإن يد الله عز وجل سحاء، ينفق بالليل والنهار، لا يغيضها شيء، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.
كذلك من باب أولى اعتزال الصحف والمجلات الخليعة والمنحرفة، وليس هذا الأمر مقتصراً على الذين يهاجمون الإسلام بل هناك نمط من المفتين يخافون من أهل الفسق، فبدلاً من أن يفتوا بشرع الله تعالى فيوصفون بالإرهاب والتطرف والتشدد، يفتون الناس بغير شرع الله؛ بل يحللون الحرام ويحرمون الحلال والعياذ بالله! سئل بعضهم في مجلة الشباب -كما حدثني من أثق بنقلهم- عن التدخين: أحرام هو أم حلال؟ فقال: إذا كان الموظف مرتبه مائة جنيه فهو حرام عليه، لكن إذا كان دخله كبيراً فلا بأس بالتدخين!! أهذه فتوى؟ وعلى ضوئها نستطيع أن نقول: إذا كان الموظف مرتبه مائة جنية فلا يشرب الخمر، وإذا كان مرتبه أكثر فلا بأس أن يشرب الخمر!! فما هو أصل القياس الصحيح الذي يجعلنا نلحق هذا الدخان بالخمر، ولو من وجه أو وجهين؟! ولماذا لا يريد أن يقول: إن التدخين حرام؟ لو أن الأطباء اجتمعوا، وجميع منسوبي وزارة الصحة، وأخرجوا لنا تقريراً بأن التدخين مضر؛ فسوف نحرمه، ومع هذا فإن كل المجامع الطبية العالمية بما فيها المجامع المصرية في بلادنا، ووزارة الصحة، تقاريرها الرسمية وغير الرسمية تقول: إن التدخين مضر جداً بالصحة، وهذا الكلام يكتب على علب السجائر بأمر من القانون، وإلا فإن أصحاب المصانع لا يريدون كتابة هذه العبارة، لكنهم مجبورون من قبل القانون.
إذاً: مذهب الدولة الرسمي في السجائر أنها ضارة جداً بالصحة، والمفتي الذي أفتى بهذه الفتوى له فتوى بتحريم الدخان، وهي موجودة عندي، لكنه يفتي كل سنة بفتوى ثم يتراجع عنها، كما أفتى في رمضان أن نصوم مع السعودية، ثم أفتى بأن لكل بلد مطلعه، وإلى الآن لم يبتوا فيها، مع أن المسألة عند أي رجل عنده قدر من أصول الشريعة، لا يتردد على الإطلاق في الأخذ باتحاد المقال، رعاية لمصالح المسلمين.
فأنت عندما تشتري هذه الصحف وفيها مثل هذا الكلام، وتقرأ فيها مثل هذه الفتاوى التي لا يحكمها خطام ولا زمام، ولا ترجع إلى أصل صحيح، فمن حيث أردت الخير لدغك ثعبان، فلابد أن تصون نفسك ومالك، فبدلاً من أن تشتري هذه الصحف بأربعين قرشاً، تصدق بها على مسكين خير لك.
والله الذي لا إله غيره لقد اتصلت بي في الأسبوع الماضي أسرة تبكي لأنها لا تجد شيئاًَ، ويبيتون على الطوى، ولا يوجد في البيت كسرة خبز، وليس عندهم رجل يعولهم، كلهم نساء، فعندما قلنا لبعض الناس: اذهبوا إلى البيت الفلاني واعملوا كذا قال: إن المرأة قبلت قدمه، وظل النساء يبكين طوال الفترة وهو يعطيهن ما يسد رمقهن ويشبع جوعتهن، وقد كانوا أصحاب عز، ولكن أباهم مات، والعم أكل الميراث في قصة معروفة، وبقيت المرأة وبناتها يبيتون على الطوى لا يجدون رغيف خبز يأكلونه.
إذاً: الأربعون قرشاً سوف تشتري بها ثمانية أرغفة، وسوف تطعم بها أربعة أو خمسة جائعين، وتكون قد ادخرتها لنفسك، فأنفق من مالك فإن أولادك لن ينفعوك إذا لم يكونوا ملتزمين بأمر الله تعالى، إنهم سيختصمون في الميراث وأنت ما زلت جثة ساخنة، وبعد أن تدفن سيرجعون ويقتتلون على الميراث ولن يترحموا عليك.
لقد حضرت مرة مشاجرة بين أصحاب ميراث، مع أن أباهم لم يكن له إلا أربعون يوماً منذ أن مات، وإذا بالولد يصيح ويغضب، ويريد الدنيا، ويريد أن يتزوج قبل تقسيم الميراث، ويريد كذلك سيارة أسوة بإخوته، ويقول: إن أباه ظالم، إنه كان يعطي لفلان وفلاناً وتركني، ولم أكن أعرف أنه سيموت، وإلا فإنه كان سيعطيني وأخته تقول له: يا أخي! هذا أبوك لم يمر عليه إلا أيام، فقال: الله يرحمه، لا تجعليني أغلط عليه!! فهل يستحق هذا الولد شربة ماء؟! هل يستحق أن تترك له جنيهاً واحداً؟! لقد حرم الأب نفسه من الطيبات والمأكولات والمشروبات، بل حتى من الصدقة؛ كي يورث لابنه شيئاً، وإذا به بعد موت أبيه يفعل هكذا!! فينبغي أن تكثر من صدقة السر؛ فإن هذا هو الحساب الجاري الذي ستتركه لنفسك، وعندما تموت سوف تلقى ما أنفقت أمامك، وأنت وحدك الذي ستنتفع به، وبهذا تكون قد تركت لأولادك شيئاً ونفعت نفسك أيضاً.
إذاً: الزجر بالهجر ضرورة شرعية، نحن في أمس الحاجة إليها في هذا العصر، فابنك الذي لا يصلي لا تجلس معه، ولا يأكل معك على مائدة واحدة، ولا تسوي بينه وبين الذي يصلي في الهبة، فالولد الذي يصلي أعطه وأكرمه، والذي لا يصلي لا تعطه؛ لأن عطاءك إنما هو بالموالاة لله عز وجل، فمن كان ولياً لله واليناه، ومن كان عدواً لله عاديناه.
وكما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: الولاء والبراء إنما هو على قدر الخير والشر في الإنسان، يوالى بقدر ما فيه من الخير، ويعادى ويهجر على قدر ما فيه من الشر.
وإذا عرف ابنك أنك ستطرده، وأنك لن تسامحه على الإطلاق في مسألة ترك الصلاة، فهل سيتمادى؟ لا.
إذاً: الزجر بالهجر قاعدة من قواعد الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ينبغي أن نحييها في مجتمعاتنا.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.