للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عدم صرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته]

وهذه بدهية لا نطيل الكلام عليها لوضوح الأدلة عليها، لكن كيف نرد؟ إذا رددنا إلى الكتاب والسنة بأي طريقة نرد طالما اتفقنا على أن نرد إلى الكتاب والسنة؟ نقول: إن العلماء يقولون: الأصل في الألفاظ الحقيقة، والأصل أيضاً الظاهر.

ما معنى هذا الكلام؟ مثلاً لفظ (اليد) إذا سمعت لفظ (اليد) أول ما يخطر على بالك اليد التي لها خمس أصابع، يد الإنسان، لكن هذه الكلمة -التي هي كلمة (يد) - يمكن أن يكون لها معنى آخر غير اليد التي هي الراحة التي فيها خمس أصابع، يمكن أن تكون بمعنى النعمة مثلاً، كما لو قلت: فلان له علي يد، أي: له علي جميل.

لكنك ما صرفت اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة، سياق الكلام هو الذي أخرجه.

أنت لو سمعت كلمة (صوم)؛ شخص قال لك: إني صائم.

أول معنى يخطر على بالك ما هو؟ صائم عن الأكل والشرب والجماع، الصيام الذي نحن نعرفه، لكن هل الصيام هو ذلك فقط؟ لا، أصل كلمة (صيام) يعني: الإمساك.

كلمة (صيام) معناها: الإمساك عن أي شيء اسمه صيام.

ألا ترون إلى قول مريم عليها السلام: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:٢٦] يعني: الصوم عن الكلام، ليس الصوم عن الأكل والشرب.

ما الذي أعلمنا أن صيام مريم عليها السلام الذي هو الصيام عن الكلام؟ سياق الآية، لكن لو كانت الآية: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم:٢٦] ووقفت على هذا، نفهم أن المقصود بالصيام: الإمساك عن الأكل والشرب والجماع مثلاً، فلما أتممنا بقية الكلام عرفنا أن الصيام المقصود ليس هو الصيام المتبادر إلى الذهن، إنما هو صيام مخصوص.

الأصل في الألفاظ الحقيقة، فلو قلت: سلمت على أسد -ونحن نعلم أن الأسد لا يسلم عليه- فإن سياق الكلام يدل على أنك تقصد: سلمت على رجل كالأسد.

لذلك سياق الكلام إحدى القرائن الصارفة للكلام.

يبقى الأصل في كلام الله ورسوله أن ينزل على الحقيقة، لا يصرف عن غير الحقيقة إلا بدليل؛ ولذلك أصابنا شر عظيم بسبب الحيدة عن هذا الأصل الكبير.

ومن أشد الناس ضلالاً في هذا الصوفية أصحاب التفسير الإشاري ك ابن عربي، وابن الفارض، وابن سبعين؛ فهؤلاء خرجوا عن ظاهر الشريعة وأصل الكلام فأحدثوا من الفساد ما لا يعلمه إلا الله! الروافض غلاة الشيعة الذين هم مثل أصحاب إيران الآن، ما هؤلاء كلهم روافض ليسوا شيعة فقط، يا ليتهم شيعة! الشيعي قديماً كان يقدم أبا بكر وعمر ويعظمهما لكن يقول: أنا أرى أن علياً أولى بالخلافة من عثمان، إذا كانت المسألة هكذا تبقى خفيفة.

لكن هؤلاء روافض يسبون أبا بكر وعمر، ويزرون بالصحابة ويقولون: إن الصحابة جميعاً ماتوا على النفاق ما عدا ستة! هؤلاء الروافض لما فسروا قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:٦٧] قالوا: يعني أن تذبحوا عائشة! ما دخل البقرة بـ عائشة؟! افتح القاموس، هل تلاقي من مفردات كلمة (بقرة) أو من معانيها عائشة؟! لأنهم روافض ويكرهون عائشة فلذلك قالوا: (بقرة) يعني: عائشة.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا} [آل عمران:٢٠٠] أبو بكر {وَصَابِرُوا} [آل عمران:٢٠٠] عمر {وَرَابِطُوا} [آل عمران:٢٠٠] عثمان {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:٢٠٠] علي! ما هذا الكلام؟! من يفهم أن (اصبروا) هي أبو بكر؟ وهؤلاء صندوقهم لا ينتهي؟ يضع أحدهم يده في الصندوق ويخرج بحاجة ما الذي أدخل أبا بكر وعمر في الآية؟ وبعض المنتسبين لأهل السنة يريد أن يرد على الشيعة؛ فيفسر بعض آيات القرآن الكريم مثل ما هم يفسرون.

يأتي محيي الدين بن عربي (وليس بمحي للدين، فإنه عمل فساداً عريضاً في هذا الدين) يفسر -أو يحرف- قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:٦ - ٧].

أنت -أيها المسلم- إذا سمعت هذه الآيات تعرف أن الناس ينزلونها على الكافرين، هو قال: إن هذه الآيات نزلت في أهل الورع! فهي لم تنزل في المسلمين فحسب، بل نزلت في المؤمنين الخلص.

فماذا عن كلمة (كفروا)؟! أين تذهب بها؟! قال لك: (كفروا) يعني: كفروا إيمانهم؛ أي: غطوه، فحجبوه عن الناس خشية أن يحبط بالرياء.

انظر إلى التحريف! يقول: (إن الذين كفروا) أصل الكفر هو التغطية، كما قال تبارك وتعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:٢٠] الذين هم الزراع؛ لأن الفلاح حين يزرع البذرة في الأرض يغطيها فيقال فيه: كفرها.

وسميت الكفور كفوراً لأنها تكفر بالأشجار.

وهذا مكان اسمه (كفر الشيخ) سميت كفراً لأن أصل الكفر: البيوت الكثيرة التي التفت حولها الأشجار فغطتها عن العيون، فلذلك كان اسمها كفراً، وسمي الليل كافراً لأنه يغطي نور النهار، وسمي الكفر كفراً لأنه يغطي الإيمان.

فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:٦] أي: إن المؤمنين من أهل الورع الذين كفروا إيمانهم يعني: غطوه، فلا يظهرونه للناس خشية أن يحبط بالرياء.

فماذا عن قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:٦]؟!! أين تذهب بها؟ قال: الإيمان أصله التصديق، فمهما هددهم الناس وتوعدوهم فهم لا يصدقون بذلك، ومصداقه قوله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:١٧٣].

{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:٧] فلا يدخلها غيره انظر إلى التحريف! {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة:٧] فلا يسمعون إلا منه.

{وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:٧] فلا يرون الباطل.

{وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:٧] يعني: من الناس المخالفين لهم.

انظر انظر إلى هذا الكلام! انظر إلى التحريف! ويزعم أن هذا هو التفسير المتين، وأنه هو الذي يفهم القرآن، وعلماء الشريعة هؤلاء علماء الظاهر الذين لا يفهمون شيئاً، إنما هؤلاء علماء الباطل أوالباطن كما يقولون.

كل جناية عن الشريعة بسبب صرف اللفظ عن ظاهره أو حقيقته.

ولذلك الجهمية الذين نفوا صفات الله تبارك وتعالى بدعوى التنزيه، يقولون -في تفسير قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:١٠] (يد الله) أي: قدرته أو نعمته فهذا تحريف.

انظر إلى النفي والإثبات في قوله تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١] فنفى المثلية وأثبت السمع والبصر إذاً: كل الصفات التي تثبتها تحت قوله تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] له يد وليس كمثله شيء، له سمع وليس كمثله شيء، له بصر وليس كمثله شيء، كل صفاته تحت قوله تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١].

إذاً: نثبت لله يداً على الحقيقة، لكن كما يليق بجلاله.

قال ابن قتيبة رحمه الله: ومن الأدلة على بطلان قولهم: (إن اليد بمعنى النعمة في القرآن) أن العرب إذا قصدت أن اليد بمعنى النعمة، فإنها إما أن تفردها وإما أن تجمعها، فتقول: فلان له علي يد أو أيادٍ -إما أن تورد اليد بالإفراد وإما أن توردها بالجمع- ولا يثنون اليد أبداً وهم يقصدون النعمة، لدينا المفرد والمثنى والجمع، خرج المثنى من الموضوع يبقى لنا الإفراد والجمع، فالعرب إذا أرادت اليد بمعنى النعمة إما أن تفرد وإما أن تجمع.

ثم قال: اقرأ قوله تبارك وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ} [المائدة:٦٤] مثنى أو جمع؟ مثنى، قال: فذلك يدل على أن اليد على الحقيقة {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:٦٤].

ابن قتيبة هذا أحد علماء العربية الأقحاح، رجل متضلع حتى النخاع، فيقول: إن العرب لا تعرف اليد بمعنى النعمة إلا في الإفراد والجمع.

فالمبتدعة الذين أرادوا أن ينزهوا الله تبارك وتعالى فأخرجوا الألفاظ عن ظاهرها، كانوا معسكرين: معسكر نفى الصفة، ومعسكر رد عليهم وبالغ حتى شبه الله بخلقه.

معسكر قال: ليس له يد، بل اليد بمعنى النعمة.

والمعسكر الثاني رد عليه وقال: له يد مثل يدي هذه.

والحق بينهما.

ولذلك رحم الله القائل: إن المشبه يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً.

المعطل -وليس المنزه- يعبد عدماً، والمشبه يعبد صنماً ما معنى هذا الكلام؟ المعطل: كلما تأتي له بصفة من صفات الله يعطلها مباشرة حتى لا يشبه الله بخلقه، يقول لك: لا، هو لا له يد، ولا له سمع، ولا له بصر، ولا له إصبع، ولا له قدم، ولا له أي صفة من هذه الصفات.

أليس هو إلهاً؟! ما هي صفاته؟! يقول: لا سميع ولا بصير ولا قدير ولا شيء من هذا.

إذاً يعبداً عدماً! لما عطل صفات الله تبارك وتعالى عبد العدم.

والمشبه -الذي رد على المعطل لكنه تطرف في الناحية الثانية- يعبد صنماً؛ لأنه جعل من إلهه شبيهاً بخلقه.

إنما الرجل من أهل