فقوله عليه الصلاة والسلام:(الرؤيا الحسنة -أو: الصالحة، أو: الصادقة- من الرجل الصالح، جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)، وإنما كانت الرؤيا الصادقة جزءاً من النبوة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: أول ما بشر بالوحي بشر بالرؤيا الصادقة، كما قالت عائشة رضي الله عنه:(كان أول ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم -يعني من مبشرات النبوة- الرؤيا الصالحة، فكان إذا رأى رؤيا جاءت مثل فلق الصبح) لذلك صارت جزءاً من النبوة.
قوله عليه الصلاة والسلام:(لم يبق من النبوة إلا المبشرات)؛ فأثبت أن الرؤيا بشرى؛ لكن بعض الرؤيا لا تكون بشرى: إنما تكون نذارة لصاحبها، فهل تدخل هذه في البشرى؟ نعم.
مثل: حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين قال: (كنت شاباً عزباً، أبيت في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان الناس يرون رؤى، فيقصونها على النبي صلى الله عليه وسلم، فيؤولها لهم، فقلت في نفسي ذات ليلة: لو كان فيَّ خيرٌ لرأيت رؤيا، قال: فنمت في هذه الليلة، فرأيت -لكن يا لهول ما رأى- ملكين يجراني إلى النار، وأنا أقول: أعوذ بالله من النار، فأخذاني فأوقفاني على شفيرها -أي: على حافتي النار- فإذا فيها أناسٌ معلقون من أرجلهم عرفتهم، وإذا ملكٌ أخذني منهم، وقال لي: لم ترع، أي لا تخاف، فاستيقظتُ وأنا أقول: أعوذ بالله من النار)، وكأنما هاب أن يقصها على النبي عليه الصلاة والسلام، فقصها على أخته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، فقصتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام:(نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل)، وفي الرواية الأخرى قال:(عبد الله رجلٌ صالح لو كان يقوم الليل)، قال راوي هذا الحديث، سالم ابنه: فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلا.
فهذه الرؤيا وإن كان ظاهرها مفزعاً كما أفزعت ابن عمر رضي الله عنهما، إلا أنها كانت من أوائل المبشرات؛ إذ دله النبي صلى الله عليه وسلم على ما ينجيه من النار.
وقد يكون الإنذار من جملة البشرى:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ}[النساء:١٦٥] يبشرون الذين آمنوا، وينذرون الذين كفروا، فإن الكافر إذا أنذر فأسلم كانت النذارة بمنزلة البشرى للمؤمن، إذاً فالنذارة تختلف: فقد تكون نذارةً محضة أو بشارة على حسب الأثر المترتب، فرؤيا ابن عمر وإن كان ظاهرها مؤلماً إلا أن عاقبتها كانت حسنة، استفاد منها ابن عمر، فكان لا ينام من الليل إلا قليلاً.