[نماذج من حياة علماء السلف في ترك الغلو في المشايخ]
هناك نماذج كثيرة جداً من العلماء والفقهاء، منها مثلاً أحد العلماء اسمه: موسى بن إسماعيل التبوذكي أبو سلمة، أحد المحدثين الكبار، وهو من مشايخ أحمد وابن معين، وأدركه الإمام البخاري، وهو من كبار شيوخ البخاري.
موسى بن إسماعيل التبوذكي وقد كان إمام الجرح والتعديل أبو زكريا يحيى بن معين رحمه الله يجله غاية الإجلال، ويقول: ما هبت أحداً هيبتي للتبوذكي.
وابن معين لم يكن يخاف من أحد، ومع ذلك يقول: ما هبت أحداً هيبتي للتبوذكي - موسى بن إسماعيل التبوذكي -.
فقال له يحيى بن معين: يا أبا سلمة! حديثك عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن أبا بكر -وساق حديثاً في قصة الغار- هل سمعته من حماد؟ احلف لي على ذلك؟ - قال له: احلف لي على أنك سمعته من حماد -تقريباً القصة هكذا- فإن أصحاب حماد يخالفونك.
- فقال له التبوذكي: كم سمعت مني؟ - قال له: سمعت منك ثلاثين ألف حديث.
- فقال له أبو سلمة: صدقتني في ثلاثين ألف حديث وتكذبني في حديث، أشهد لسمعته من حماد، ولله علي لا كلمتك بعد ذلك أبداً.
وأبى أن يكلمه، ولكنه حلف له أنه سمع.
وكذلك أبو النعمان عارم محمد بن الفضل، عارم أخطأ في حديثين فرد عليه يحيى بن معين، فقال له عارم: لا.
بل هو كما قلت أنا.
فقال ابن معين: لا والله، بل كما قلت أنا.
فقال له يحيى: قم هات الأصل.
فدخل أبو النعمان وجاء بالكتاب فوجده كما يقول يحيى، وكان عارم محمد بن الفضل في حفظه زيف، فخرج من بيته ومعه الكتاب وهو يقول: من الذي ينكر أن يحيى بن معين سيد المحدثين؟! -أي: يعتذر عن هذه الملاحاة- من الذي ينكر أن يحيى بن معين سيد المحدثين؟! فلما يحصل نوع من الاعتراض على الشيخ -لاسيما إذا كان الشيخ مخطئاً ويرجع- يكسر حدة الغلو فيه، وإذا كان ناقصاً ويخطئ، ومن هو أدنى منه يسدده ويبين له أخطاءه؛ فهذا يكسر حدة الغلو فيه لأن الغلو مدعاة الكمال، وما غلا إنسان في إنسان إلا وهو يعتقد أنه فوق مستوى الناس، وهذا معنى شائك للغاية؛ لأن لدينا نماذج في علماء المسلمين شبيهة بهذا التعظيم، تجد مثلاً قول أحدهم: (والله ما جرأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلي؛ هيبة له) وما ثبت عن بعض التابعين أنه كان يأخذ النعل ويعطيه لشيخه، يضعه تحت قدم شيخه فهذا أيضاً مدعاة للغلو، وأيضاً نماذج أخرى مثلما يحكيه ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد أن الإمام أحمد كان يجلس تحت قدمي عبد الرزاق بن همام الصنعاني، وكان عبد الرزاق شيخ أحمد يقول له: اجلس بجانبي، فكان يقول: لا، هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا.
فهذا أيضاً مدعاة للغلو، فنحن وسط لا إفراط ولا تفريط ما بين الغلو المبتدع والتشريف والتبجيل إلا أن نقول: الغلو ممنوع؛ لأنه ليس في الغلو خير.
إن الصوفية حازوا قصب السبق في الغلو في الشيوخ، ويتلوهم أيضاً الذين غلوا في الأئمة الكبار وقلدوهم حتى في الغلط، وما نشأت العصبية المذهبية في المسلمين إلا بالغلو في الشيوخ، وأعظم وأخطر سلاح يستخدمه الغالي أن يرمي المعتدل ببغض هذا الشيخ.
فإذا قلنا: يا أخي! الإمام الشافعي ليس بمعصوم.
يقول: أنت بهذا تطعن على الشافعي، أنت تكره الشافعي!! وإذا قلنا: الدسوقي رجل فاضل في ذاته، لكن ما يُفعل حول قبره لا يجوز، وهذا شرك بالله.
يقولون: أنت بهذا لا يعجبك أولياء الله، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون! وإذا قلنا: إن هذا شرك لا يجوز، يقولون لك: (أنت تطعن في الأولياء)! إذاً: الغالي ليس معه إلا هذا السلاح: أن يرميك ببغض هذا الشيخ.
وهناك كتاب اسمه (توشيح الديباج) في الفقه المالكي -جزء صغير- لـ بدر الدين القرافي، وبدر الدين القرافي غير شهاب الدين القرافي، فـ الشهاب القرافي هو صاحب كتاب الفروق وهو متقدم، وأما بدر الدين القرافي فمتأخر.
من تشابه الأسماء: الزركشي، فهناك عالمان أحدهما حنبلي والآخر شافعي، فـ بدر الدين الزركشي شافعي، وشمس الدين الزركشي حنبلي، وهو شارح مختصر الخرقي في الفقه الحنبلي الذي شرحه ابن قدامة في المغني، وشرح شمس الدين الزركشي على مختصر الخرقي في سبعة مجلدات، وبدر الدين الزركشي شافعي، وهو صاحب كتاب: البرهان في علوم القرآن، وصاحب كتاب: البحر المحيط في أصول الفقه، وصاحب كتاب: المعتبر في تخريج أحاديث المختصر، الذي خرج فيه أحاديث مختصر ابن الحاجب.
وبدر الدين القرافي -وليس شهاب الدين - يقول في كتاب: توشيح الديباج: نحن خليليون وأشهر مختصر للفقه المالكي هو لـ خليل بن إسحاق، ثم مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، والمختصر هذا في المذهب المالكي مثل مختصر الخرقي في المذهب الحنبلي.
فـ بدر الدين القرافي يقول في توشيح الديباج: (نحن خليليون، ولو ضل خليل لضللنا).
أي لو أن خليل بن إسحاق ضل فإنا لن ندعه أبداً.
إذ لو علم أنه ضل لا أظن أنه يضل، فهو هذا الظن بالعلماء، حتى لو صدرت منهم عبارة نابية أو نشاز فلا تقبل، لكن ينبغي أن يحمل كلامهم على ما يناسب علمهم، إذ لو علم أنه ضل بيقين ما أظنه أبداً يتبعه وهناك من العلماء من يرى أن الحق في مذهبه مثل الجويني في (مغيث الخلق ببيان القول الحق) ألف هذا الكتاب لنصرة المذهب الشافعي، فرد عليه سبط ابن الجوزي بكتاب، وكذلك الخطيب البغدادي لما أورد في ترجمة أبي حنيفة ما يعاب به أبو حنيفة، مع أن الخطيب لم يقصد عيب أبي حنيفة، لكنه كمؤرخ يذكر كل ما قيل في صاحب الترجمة من حق أو باطل، هذه هي طريقة المؤرخ، وهي أن يورد كل ما يقع تحت يده مما يخص صاحب الترجمة، سواء كان بحق أو بباطل.
فيرد عليه سبط ابن الجوزي بكتاب سماه (السهم المصيب لكذب الخطيب) ويرد عليه رداً شديداً جداً ومقذعاً للغاية مع أن الخطيب له أوسع الكتب في المسألة، والخطيب أورد في تراجم العلماء في تاريخ بغداد مثالب للعلماء، لا نقول: إن الخطيب كان يعتقد هذه المثالب، لكن هو كمؤرخ يورد بالسند الذي عنده كل ما يقع تحت يده مما يخص صاحب الترجمة.