للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

موانع، الجفل، وبقي البلد لا متولّي فيه، والناس رعاع، وغلا السعر حتى بيع الخبز ثلاث أواق بدرهم، وانحصر الناس فلا يجسر أحد على الخروج إلى بستانه ولا مزرعته ولا داره، وخرجت الشلوح واللصوص إلى البساتين يقطعون الفواكه قبل أوانه وكذلك الزروع والبقول وغير ذلك. والناس في حيرة، وحيل بينهم وبين خبر الجيش، وانقطعت الطريق إلى الكسوة (١) في ساعة واحدة، فيرجع هذا وهو مجروح، وآخر وهو مشلّح، وظهرت الوحشة على البلد والحواضر، وليس للناس غير الصعود في مواذن الجامع ينظرون كذا وكذا، فتارة يقولون: رأينا سوادا وغبرة من جهة المرج، فيخاف الناس ويجزمون أنّ التتار قد أحاطت بهم. وينظرون إلى جهة الكسوة، فيقولون: ليس ثم شيء بالكليّة، ويتعجّبون لما فعل الله تعالى بهذا الجيش، وأزاله في لحظة مع الكثرة وجودة العدد والسلاح/٦٩ ب/والثياب والهيئات، ثم يقولون: ليس لهم من يجمعهم على أمر واحد، ولهذا حصل فيه الفشل والجبن والتخاذل وكثر اللجا (٢) إلى الله تعالى. وقال الناس: قد بقينا أكلة في هذا البلد، فإنّ الأسباب قد زالت، الجيش بأسره توجّه عنّا وخذلنا، حتى أرباب الوظائف مثل الوالي ونحوه، فلا يرى في البلد جنديّ ولا فرس، والعدد الموجودة في البلد حملت إلى القلعة، والأكابر والقضاة الذين دخلوا تلك المرّة في المداراة وحقن الدماء توجّهوا بأسرهم. ومنهم من دخل القلعة، وانقطعت الآمال. وألحّ الناس في الدعاء في القنوت وعقيب الصلوات.

وكان هذا اليوم وهو يوم الخميس التاسع والعشرين من شعبان يوما عظيما هائلا جدّا، بحيث لو علم الناس أنّ الأمر يقع هكذا لما سكن أحد ولا أقام، ولو منعه ألف مانع، وكان بذل ما يملكه على الخلاص من ذلك.

وفي آخر هذا اليوم بعد العصر وصل الأمير فخر الدين إياس المرقبيّ من أمراء دمشق وذكر خيرا وقال: إنّ العساكر قد اجتمعت، والقصد هو انضمام الجيش بعضه إلى بعض، ووصول السلطان، وهذا قد حصل وهم راجعون، ذكروا أنه وصل يكشف هل أحاط العدوّ بالبلد. وكان القياس يقتضي ذلك لولا رحمة الله تعالى وعطفه ولطفه سبحانه وتعالى، فإنه لم يبق بيننا وبينهم حاجز، فإنهم كانوا على المعيصرة، وقد ذهب الجيش وتقدّم عن البلد إلى شقحب، وذهب اليزك ولحق بالجيش، فكان ممّن وصل منه الأمير سيف الدين سمز، فمرّ بالبلد وحذّر الناس، وأمر متولّي القلعة لشمس الدين الخطيري أن يتكلّم في أمر الولاية، ولابن النخيلي في الحسبة. وأمسى الناس عشيّة هذا اليوم الشديد وعندهم سكون يسير بسبب ما أخبرهم المرقبيّ. ومع هذا فالقلوب واجفة.


(١) الكسوة: قرية في أول منزل تنزله القوافل إذا خرجت من دمشق إلى مصر. (معجم البلدان ٤/ ٤٦١).
(٢) الصواب: «اللجوء» أو «الالتجاء».

<<  <  ج: ص:  >  >>