للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولما كان بين الظهر والعصر من نهار الثلاثاء السابع والعشرين من صفر سنة سبع عشرة وسبع ماية أرسل الله تعالى سحابة عظيمة ذات رعد وبرق ومطر غزير وبرد وودق، فسالت منها الأودية شرقيّ بعلبك المحروسة، وحملت ما أتت عليه من أشجار العنب وغيره، فانفرقت على البلد فرقتين، فرقة في الناحية الشرقية بقبلة سالت حتى انتهت إلى النهر، وبحرت بحرة عظيمة على السور حتى كادت تبلغ شرفاته ارتفاعا، وتزايدت في طوله عظما وارتفاعا، فلطف الله تعالى وثبت السور وما كاد، فتصرّفت مع جريان النهر، ولم يحصل بحمد الله بسببها كبير أمر ولا كثير فساد.

والفرقة الثانية ركبت البلد فيما بين باب دمشق وباب نحلة (١) شرقيّ البلد بشمال، وانزجرت هناك على السور نحوا من ذلك المنوال، فلما اجتمعت وثقلت خرقت من السور ما مساحته في الطول أربعون ذراعا، /٢٦٠ أ/مع أنه محكم البنيان، شديد الأركان، وحصل لما يليه التصدّع مع أنّ سمكه خمسة أذرع، فأخذت برجا على التمام والكمال، وبعض بدنة عن اليمين، وبعض بدنة عن الشمال. وهذا البرج ذرعه من كل جانب خمسة عشر ذراعا، فحمله الماء وهو على حاله لم ينقض حتى مرّ على فسحة عظيمة نحو خمس ماية ذراع من الأرض. وأخذ السيل في البلد إلى جهة الغرب جاريا، فما مرّ بشيء من طريقه إلاّ جعله خاويا، ولا على شاخص من البناء وغيره إلاّ جعله للأرض مساويا، فخرّب المساكن، وأذهب الأموال، وغرق الرجال والحريم والأطفال، وأثكل الأمّهات والآباء، وأيّم الأزواج، وأيتم الأبناء، ثم لم يزل حتى دخل الجامع الأعظم والمدرسة التي تليه فانجزر بهما حتى كاد يبلغ رؤوس العمد في تناهيها، فأتلف ما فيهما من المصاحف والربعات وكتب العلوم والأحاديث المجموعات، وشعّث فيها وخرّب وغرّق ما أزعج القلوب وأقلق، وانفجر الجدار الغربيّ من الجامع فهدمه، وأخذ ما مرّ عليه من البنيان، وهذا مشاهد العيان، حتى بلغ خندق القلعة المنصورة، فجرف من سور البلد الغربيّ الملاصق لها ما مقداره خمسة وعشرون ذراعا، وخرج من البلد، فما مرّ على بستان إلاّ ذهب بأشجارها بأسرها، وما {وَقِيلَ يا أَرْضُ اِبْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي} (٢) حتى صارت ذو المساكن على الطرقات، وأصحاب الأموال يستحقّون الصدقات، وتهدّمت المساجد وتعطّلت الصلوات.

ولقد جرى في هذا اليوم من العجائب ما لا يعدّ، ومن الغرائب ما لا يحدّ، حتى أخبر الثقات أنّه نزل من السماء عمود عظيم من نار في أوائل السيل، ورؤي من الدخان، وسمع من الصرخات في الأكوان ما يضعف الحيل، وسلم في مظنّة العطب من كتبه الله سالما على ضعفه، وعطب في مظنّة السلامة من قضى بحتفه. وكانت


(١) «نحلة» بالحاء المهملة، وهي قرية معروفة قرب بعلبك.
(٢) سورة هود، الآية ٤٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>