وكان رأسا في صدق اللهجة والأمانة، صاحب سنّة واتّباع ولزوم للفرائض، خيّرا، متواضعا، حسن البشر، عديم الشّرّ، فصيح القراءة، قويّ الدّربة، عالما بالأسماء والألفاظ، سريع السّرد مع عدم اللحن والدّمج، قرأ ما لا يوصف كثرة، وروى من ذلك جملة وافرة. وكان حليما، صبورا، متودّدا، لا يتكثّر بفضائله، ولا ينتقص بفضائل أخيه، بل يوفّيه فوق حقّه، ويلاطف النّاس. وله ودّ في القلوب، وحبّ في الصدور. احتسب عدّة أولاد درجوا منهم: محمد تلا بالسبع، وحفظ كتبا، وعاش ثماني عشرة سنة، ومنهم: فاطمة، عاشت نيّفا وعشرين سنة، وكتبت «صحيح البخاري» و «أحكام المجد»، وأشياء.
وله إجازة عالية عام مولده من ابن عبد الدائم، وإسماعيل بن عزّون، والنّجيب، وابن علاّق. وحدّث في أيام شيخه ابن البخاريّ.
وكان حلو المحاضرة، قويّ المذاكرة، عارفا بالرجال الكبار، ولا سيّما أهل زمانه وشيوخهم. يتقن ما يقوله، ولم يخلف في معناه مثله، ولا عمل أحد في الطلب عمله.
حجّ سنة ثمان وثمانين، وأخذ عن مشيخة الحرمين، وخرّج «أربعين بلدانية».
ثم حجّ أربعا بعد ذلك. وفي عام وفاته توفّي بين الحرمين محرما، وغبطه الناس بذلك.
وكان باذلا لكتبه وأجزائه، سمحا في أموره، مؤثرا، متصدّقا، رحوما، مشهورا في الآفاق، ومقصدا لمن يلتمس إسماعه.
وكان هو الّذي حبّب إليّ طلب الحديث، فإنّه رأى خطّي فقال: خطّك يشبه خطّ المحدّثين. فأثّر قوله فيّ. وسمعت وتخرجت به في أشياء.
ولّي قراءة الحديث سنة عشر وسبعمائة، وقرأه بالظاهرية، وحضر المدارس.
وتفقّه مدّة بالشيخ تاج الدين عبد الرحمن وصحبه وأكثر عنه، وسافر معه. وجوّد القرآن على الرضيّ بن دبّوقا (١)، وتفرّد ببعض مرويّات. وتخرّج به الطلبة، وما أظنّ الزمان يسمح بوجود مثله، فعند ذلك نحتسب مصابنا به. ولقد حزن الجماعة به، خصوصا رفيقه أبو الحجّاج شيخنا، وبكى عليه غير مرّة. وكان كلّ منهما يعظّم الآخر ويعرف له فضله.
وكان، رحمه الله وعفا عنه، قد أقبل على الخير في آخر عمره، وضعف وحصل له فتق، وختم له بخير ولله الحمد. وانتقل إلى رضوان الله تعالى بخليص في بكرة يوم الأحد الرابع من ذي الحجّة سنة تسع وثلاثين وسبعمائة عن أربع وسبعين
(١) هو جعفر بن القاسم بن جعفر المقرئ، توفي سنة ٦٩١ هـ.