وحكي عن أبي إسحاق إنه قال: هذا الذي عندي فيه، والله أعلم، وكنت عرضته على عالمنا محمد بن يزيد، وذكرا أنه أجود ما سمعناه. واعلم أنّ هذا الذي رواه أبو إسحاق في هذه المسألة مدخول غير صحيح، وأنا أذكره لتقف منه على ما في قوله، ووجه الخطأ فيه أنّ"هما" المحذوفة التي قدرها مرفوعةً بالابتداء لم تحذف إلا بعد العلم بها، ولولا ذلك لكان في حذفه مع الجهل بمكانه ضرب من تكليف الغيب للمخاطب، وإذا كان معروفًا فقد استغنى بمعرفته عن تأكيده باللام، ألا ترى أنه يقبح أن تأتي بالمؤكد وتترك المؤكّد فلا تأتي به؟ ! أولا ترى أنّ التأكد من مواضيع الإسهاب والإطناب، والحذف من مواضع الاكتفاء والاختصار؟ فهما إذن لما ذكرت ضِدّ ان لا يجوز أن يشتمل عليها عقد كلام، ويزيدك وضحًا امتناع أصحابنا من تأكيد الضمير المحذوف العائد على المبتدأ في نحو: زيد ضربت، فيمن أجازه، فلا يجيزون: زيد ضربت نفسَه على أن تجعل النفس توكيدًا للهاء المرادة ضربته، لأن الحذف لا يكون إلاّ بعد التحقق والعلم، وإذا كان ذلك فقد استغنى عن تأكيده، ويؤكد عندك ما ذكرت أنّ أبا عثمان وغيره من النحويين حملوا قول الشاعر:
أمٌ الحليسٍ لعجوز شهربه
على أنّ الشاعر أدخل اللام على الخبر ضرورة، ولو كان ما ذهب إليه أبو إسحاق جائزًا لما عدل عنه النحويون، ولا حملوا الكلام على الاضطرار إذا أجدوا له وجهًا ظاهرًا قويً، وحذف المبتدأ وإن كان سائغًا في مواضع كثيرة، فإنه إذا نقل عن أول الكلام قبح حذفه، إلى هنا كلام ابن جني. وهو مبني على أنّن اللام مؤكدة للمفر، وهو ممنوع، وإنما هي من مؤكدات مضمون الجملة، بخلاف النفس والعين، فإنهما يؤكدان المفردات، وذهب الإسفراييني في"اللباب" إلى أنّن اللام إنما دخلت على الخبر لتوهم ذكر إنّ، فكأن قيل: إنّ أمً الحليس، وهذا جيد وله نظائر. والحليس، بضم الحاء المهملة، وفتح اللام: مصغر الحلس، والشهربة: العجوز