قال صاحب "المثل السائر" في أدب الكاتب والشاعر، وهو ضياء الدين، نصر الله، الشهير بابن الأثير الموصلي: قرأت في كتاب "الروضة" لأبي العباس المبرد، وهو كتاب جمعه، واختار فيه أشعار شعراء بدأ فيهم بأبي نواس، ثم بمن كان في زمانه، وانسحب على ذيله، فقال فيما أورده من شعره: وهو معنى لم يسبق إليه بإجماع، وهو قوله:
تدار علينا الراح في عسجدية .. الأبيات
وقد أكثر العلماء في وصف هذا المعنى، وقولهم فيه: إنه [معنى] مبتدع، ويحكى عن الجاحظ أنه قال: ما زال العلماء يتناقلون المعاني قديماً وحديثاً إلا هذا المعنى، فإن أبا نواس انفرد بإبداعه، وما أعلم أنا ما أقول لهؤلاء سوى أني أقول: قد تجاوزتم حد الإكثار، ومن الأمثال السائرة:"بدون ذا يباع الحمار" وفصاحة هذا الشعر عندي هي الموصوفة، لا في هذا المعنى، فإنه لا كبير كلفة فيه، لأن أبا نواس رأى كأساً من الذهب ذات تصاوير، فحكاه في شعره، والذي عندي في هذا أنه من المعاني المشاهدة، فإن هذه الخمر لم تحمل إلا ماء يسيراً، وكانت تستغرق صور هذا الكأس إلى مكان جيوبها، وكان الماء فيها قليلاً بقدر القلانس التي على رؤوسها، وهذه حكاية حال مشاهدة بالبصر. انتهى.
وقال أيضاً في قسم المساواة من ذلك الكتاب: ومن هذا الضرب قول أبي نواس، وهو من نادر ما يأتي في هذا الموضع:
ودار ندامى عطلوها وأدلجوا ... إلى آخر الأبيات.
ثم قال: ومما انتهى إلينا من أخبار ابن المزرع قال: سمعت الجاحظ يقول: لا أعرف شعراً يفضل هذه الأبيات، ولقد أنشدتها أبا شعيب القلال، فقال: والله يا أبا عثمان إن هذا هو الشعر، ولو نقر، لطن، فقلت له: ويحك! لا تفارق عمل الجرار والخزف؟ ولعمري إن الجاحظ عرف فوصف، وخبر فشكر،