للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

{عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:١١،١٢]، فوجلت القلوب لهول ذلك وتصدّعت، وكادت الحوامل أن تضع حملها وتذهل كل مرضعة عمّا أرضعت (١)، واندهش أهل البلد عند معاينة هذا الهول الكبير، واختلفت همومهم، فكلّ إلى ما اشتمل عليه قلبه يشير، فمن باك على ما في يده من متاع الدنيا الحقير، ومن مشفق خائف على ولده الصغير. ومن غريق عدم نفسه النفيسة، ماله من ملجأ يومئذ وماله من نكير، ومن ناج يقول: أشهد أنّ الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير، ومن ضارع إلى من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ومن قائل: {رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة:٤]، ولسان الحال يتلو قوله تعالى: {وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:٣٠]، ولم تزل الأمطار متواترة، والسيول من كلّ فجّ متواترة، حتى تحيّر من حضر ذلك من الإنس والجانّ، وشغلوا بما عاينوه عن الأموال والأولاد والإخوان، وظنّوا أنهم أحيط بهم، وجاءهم الموج من كل مكان، فتلاقى على البلد واديان: أحدهما من شمالها يسمّى الجود، والآخر من شرقها يسمّى جنان، فأخرب وادي الجود بهذه الآية الخارقة جانبا من حارة المشارقة، ودمّر وادي جنان ما كان على جانبه من البنيان، ثم اختلطا فرأى الناس منهما ما لا يطاق، وأخربا ما مرّا عليه من رباع وقياسير وأسواق، فأخربا العرصة والمصبغة والفرّانين والعلاّفين، وحوانيت الدق. وسوق الأدميّين، وسوق البرّ العتيق، والأقباعية، والقطّانين، وحوانيت الصاغة وما يليها من البساتين، وردم أمام دار الطعم-بعد إخراب بعضها-أحجارا وصخورا، وكل ذلك ليتّعظ أهل المكر وما يزيدهم إلاّ نفورا، وذهب هذا السيل العظيم الطامي بجميع سوق الخليع لبكتمر الحسامي، وأخرب من قيسارية ملك الأمراء للتجار نحو عشرين حانوتا، وذهب بكل ما فيها من ثمين، ثم ردم باقيها على ما فيه بالأخشاب والأحجار والطين، حتى رجعت قيمة ما سلم من المائة إلى العشرين، وأخرب ما جاوز بحر المدينة من سوق أمّ معبد واللحّامين، ومن وقف السقطيّين والحضريّين وحوانيت العجز، وسوق الأمير ركن الدين، ثم دمّر في وقف الجامع على ما فيه من الأمتعة والبضائع، ثم ردم العين بالأحجار والخشب والصخور، حتى خشي عليها أهل البلد أن تفور، ثم أخرب حوانيت الطبّاخين وجانبا من حمّام الأمير موسى، وكان ذلك على من لم يرض بقضاء الله يوما منحوسا، ثم أخرب الدبّاغة وجانبا من حمّام السلطان وما يلي ذلك من المطهرة ومسلخ المعز والضأن، وأعظم من ذلك إخرابه المدرسة النفيسية، والرواق القبلي من المسجد الجامع، وفي ذلك ما يحرق قلب كل منيب وخاشع،


(١) اقتباس من سورة الحج، الآية ٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>