للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بالرجال الكبار، ولا سيما أهل زمانه وشيوخهم. يتقن ما يقوله، ولم يخلّف في معناه مثله، ولا عمل أحد في الطلب عمله. حجّ سنة ثمان وثمانين، وأخذ عن مشيخة الحرمين، وخرّج «أربعين بلدانية». ثم حجّ أربعا بعد ذلك. وفي عام وفاته توفي بين الحرمين محرما، وغبطه الناس بذلك، وكان باذلا لكتبه وأجزائه، سمحا في أمورهم، مؤثرا، متصدّقا، رحوما، مشهورا في الآفاق، ومقصدا لمن يلتمس إسماعه.

وكان هو الذي حبّب إليّ طلب الحديث، فإنّه رأى خطّي فقال: خطّك يشبه خطّ المحدّثين. فأثّر قوله فيّ. وسمعت وتخرّجت به في أشياء. ولّي قراءة الحديث سنة عشر وسبعمائة، وقرأه بالظاهرية، وحضر المدارس. وتفقّه مدّة بالشيخ تاج الدين عبد الرحمن وصحبه وأكثر عنه، وسافر معه. وجوّد القرآن على الرضيّ بن دبّوقا.

وتفرّد ببعض مرويّاته. وتخرّج به الطلبة، وما أظنّ الزمان يجود بوجود مثله، فعند ذلك نحتسب مصابنا به. ولقد حزن الجماعة به، خصوصا رفيقه أبو الحجّاج شيخنا، وبكى عليه غير مرة. وكان كلّ منهما يعظّم الآخر ويعرف له فضله. وكان-رحمه الله وعفا عنه-قد أقبل على الخير في آخر عمره، وضعف وحصل له فتق، وختم له بخير، ولله الحمد. وانتقل إلى رضوان الله تعالى بخليص في بكرة يوم الأحد الرابع من ذي الحجّة سنة تسع وثلاثين وسبعمائة عن أربع وسبعين سنة ونصف. وولي بعده مشيخة النورية شيخنا المزّي، ومشيخة القوصية ابن رافع، ومشيخة النفيسية العبد (١)، وباقي وظائفه جماعة. ووقف كتبه وعقارا جيّدا على الصدقة (٢).

وقال في موضع آخر: «وله في الطلب بضع وخمسون سنة» (٣).

ووصفه «الصفدي» ب‍ «شيخنا الإمام، الحافظ، المحدّث، المؤرّخ»، وقال إنه:

كتب بخطّه كثيرا، وخرّج لنفسه ولغيره كثيرا، وجلس في شبيبته مع العدول الأعيان مدّة. وتقدّم في معرفة الشروط. ثم إنه اقتصر على جهات تقوم به، وحصّل كتبا جيّدة، وأجزاء في أربع خزائن، وبلغ عدد مشايخه بالسماع أزيد من ألفين، وبالإجازة أكثر من ألف، رتّب كل ذلك وترجمهم في مسوّدات متقنة. وكان-رحمه الله تعالى-رأسا في صدقه، بارعا في خدمه، أمينا، صاحب سنّة واتّباع، ولزوم فرائض، ومجانبة الابتداع، متواضعا مع أصحابه ومن عداهم، حريصا على نفع الطلبة وتحصيل هداهم، حسن البشر، دائمه، صحيح الودّ، حافظ السرّ كاتمه. ليس فيه شرّ، ولا له على خيانة مقرّ، فصيح القراءة، عديم اللحن والدمج، ظاهر الوضاءة، لا يتكثّر بما يعرف من العلوم، ولا يتنقّص بفضائل غيره، بل يوفيه فوق حقّه المعلوم، وكان عالما بالأسماء والألفاظ،


(١) أي الذهبيّ نفسه.
(٢) ذيل تاريخ الإسلام. أنظر نصوص التراجم للبرزالي.
(٣) تذكرة الحفاظ ٤/ ١٥٠١.

<<  <  ج: ص:  >  >>