بينهم، وألهمه الله من صغره طلبَ الحقَّ ومحبته، والنفور عن البدع وأهلها، فاجتمع بالفقهاء بواسِط، كالشيخ عزَّ الدِّين الفاروثي وغيره، وقرأ شيئًا من الفقه على مذهب الشافعي، ثم دخل بغداد، وصحب طوائف بها من الفقهاء، وحَجَّ واجتمع بجماعة منهم، وأقام بالقاهرة مدةً ببعض جوانبها، وخالط طوائف الفقراء، ولم يسكن قلبه إلى شيء من الطرائق المحدثة، واجتمع بالإِسْكَنْدَرِيَّة بالطائفة الشَّاذليَّة، فوجد عندهم ما يطلبه من لوائح المعرفة والمحبة والسلوك، فأخذ ذلك عنهم، وانتفع بهم واقتفى طريقتهم وهديهم، ثم قدم دمشق، فرأىَ الشيخ تقي الدين ابن تيمية وصاحَبَهُ، فدلَّه على مطالعة السَّيرة لابن إسحاق تلخيص ابن هشام، وأقبل على مطالعة كتب الحديث والسنّة والآثار، وتخلى من جميع طرائقه وأذواقه وسلوكه، واقتفى أثر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهديه، وطرائقه المأثورة عنه في كتب السُّنن والآثار، واعتنى بأمر السُّنة أصولًا وفروعًا، وشرع في الرَّدِّ على طوائف المبتدعة، الذين خالطهم وعرفهم، من الاتحادية وغيرهم، وبَيَّن عوراتهم، وكَشَف أستارهم. وانتقل إلى مذهب أحمد بن حنبل، وله تآليف كثيرةٌ في الطريقة النبوية، والسلوك الأثري المحمدي، وهي من أنفع كتب الصُّوفية للمريدين، وانتفع به خَلْقٌ كثيرٌ من المتصوِّفة أهل الحديث ومتعبَّديهم.
قال ابن رجب: قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية: هو جُنَيْد وقته، وقال البِرْزالي في "معجمه": صالحٌ عارفٌ، صاحبُ نُسكٍ وعبادة، وانقطاعٍ وعزوفٍ عن الدنيا، وله كلام متين في التصوُّفِ الصحيح، وكان داعيةٍ إلى طريق الله، وقلمه أبسط من عبارته، وكان يتقوَّت من النَّسْخ ولا يكتب إلا مقدار ما يدفع به الضرورة، وكان محبًّا لأهل الحديث مُعْظمًا لهم، وأوقاته كلُّها معمورةٌ.
وقال الذَّهَبِيُّ: كان سَيَّدًا عارفًا، كبير الشأن، منقطعًا إلى الله تعالى، ينسخ بالأجرة، ويتقوَّت، ولا يكاد يقبل من أحد شيئًا إلا النادر، صنف أجزاء عديدة في السلوك، والسير إلى الله تعالى، وفي الردِّ على الاتحادية والمبتدعة، وكان داعيةً إلى السُّنَّة، ومذهبه مذهب السَّلف في الصفات، يُمِرُّها كما جاءت، وقد انتفع به جماعةٌ صحبوه، ولا أعلم خلّف بدمشق في طريقته مثله، توفي آخر نهار السَّبْت، سادس