والتَّدْرِيس والخَطَابة، ارْتَحل مَعَه إليها، فأحَبَّه أهْلُها وكرموه إكرامًا لم يُعْهَد له نظيرٌ لغيره من الغُرَبَاء، لحُسْنِ أخلاقِهِ، ومُلَاطَفَته، وتَحبُّبِهِ إلى العامِّ والخَاصِّ، ومُسايَرته للنَّاس على اخْتِلاف مآرِبهم، فما كان يَغْضَب إلا نادرًا. ولَا يُؤاخِذُ بالجَفْوة، ولا يُعَاتِبُ على الهَفْوةِ، وكان ذكِيًّا زكيًا، أدِيبًا أريبًا، عاقِلًا، فاضِلًا، مُكرِمًا للغُرَباء، خُصُوصًا طَلَبةِ العِلْم منهم، فقلَّ من أن يَردَ عُنَيْزَة غريبٌ أدِيْبٌ إلا ويَسْتَدْعيهِ إلى بيته، ويُضِيفُه ويتحفه بشيء، ويَجْبُر خَاطِره، فَيَصْدُرُون شاكِرْين لَه مُثْنين عَلَيْه، وصارَ له بِسَببِ هذا في غالب جزيرة العَرَب وما وَالاها ذِكْرٌ حَسَنٌ، وثَنَاءٌ شائِعٌ.
وكان مُطَّلعًا على عِلْم التَّاريخ والأنْسابِ، القَرِيْبة والبَعِيْدة، ومِنْه فيها اسْتَفَدْتُ، وعلى نَقْله اعتَمَدتُ، وكان حَسَن الخَطِّ مَضْبُوطه، كَثيْر التَّصْحيح والتَّحْرِيْر والضَّبْط والتهميش، وغالبُ مقروءاته مُهَمَّشَةٌ بِخَطَّه، مُحَرَّرَةٌ بِضَبْطه، ولم يَزَل على كمال حاله واسْتِقَامتها إلى أن نَقَله الله إلى رِضْوانه ليلةَ الأحد، تاسعَ عَشَر جُمَادى الآخرة، سنةَ إحدى وتِسعين ومئتَيْن وأَلْف في بَلَد عُنَيْزَةَ، ورَثَاه الأديبُ صَالِح بن عَبْد الله بن بَسَّام بقَصِيْدةٍ مطلعها:
وقَدْ سَاقَها كُلَّها صَاحِب "السُّحب". انتهى المُرَادُ من ترجمةٍ طويلةٍ جدًا.
٢٨٧٠ - (ت ١٢٩٢ هـ): الشَّيخ عَبْد الله بن الشيخِ عَبْد الرَّحمن، الخُلَيْفيُّ النَّجْديُّ القَصَيْمِي، الحَنْبَلِيُّ.
القَاضي الشَّيخ الفَاضِل، العَالِم العَلَّامة الجَليْلُ، المُحَقِّقُ المُدَقِّق، الوَرعُ الزَّاهِدُ. وُلِدَ في بَلد البُكَيْرِيَّة من قُرى بُرَيْدَة القَصِيْم، ونشأ بها، وأَخذ العِلْم عن عِدَّة مَشَايخَ أَجلُّهم: الشَّيخ عَبْد الله أبا بُطَين، وتِلْمِيذُه الشَّيخ قرناس الرَّسِّيُّ القَصِيْمِيُّ وغيرهما. ووَلِيَ القضاء ببَلد البكيريَّة وتَوابِعِها من القُرى مُدَّةً طويلةً إلي حينِ وَفَاتِهِ، وكان مَحْمُودَ السِّيرة في القَضَاء، ذا عِبَادةٍ ووَرَعٍ، وسَخَاءٍ وكَرَمٍ،