رجب بالشام، وسمع بحَلَب من الشِّهاب بن المُرَحِّل، وولي تدريس الظَّاهريَّة البَرْقُوقِيَّة وغيرها، وناب في الحكم عن ابن المُغْلى، وناظر وأَفتى، وانتفع به الناس، وكان متضلِّعًا بالعلوم الشَّرعيَّة، من تفسيرٍ وفقهٍ، وحديثٍ وأُصول.
قال برهان الدين بن مفلح في "طبقاته": وهو أجَلُّ مشايخنا، وانتهت إليه رئاسة الحنابلة بعد موت مستخلفه علاء الدين بن مُغْلي، وله عملٌ كثيرٌ في شرح "مسلم"، وله هوامش حسنةٌ على "المُحَرَّر" وعلى "الفُرُوع"، وكتابةٌ على الفتوى نهايةٌ، وأفتى بصحة الخلع حيلةً، وعدم وقوع الطلاق بفعل المحلوف عليه زمن البينونة، ويأتي نظير ذلك في ترجمة نور الدين الشيشيني، ومن فوائده أن من اشترى حصةً مبلغها النصف مثلًا من بناء على أرض محتكرة، فليس لشريكه طلب الشفعة في البناء المبيع دون الأرض، ومنها قوله: كثيرًا ما يقع في سجلات القضاة الحكم بالموجب تارةً والحكم بالصِّحة أخرى، وقد اختلف كلام المتأخرين في الفرق بينهما وعدمه، ولم أجد لأحدٍ من أصحابنا كلامًا منقولًا في ذلك، والذي نقوله بعد الاستعصام بالله تعالى، وسؤاله التوفيق: إن الحكم بالصحة لا شكَّ أنه يستلزم ثبوت الملك والحيازة قطعًا، فإذا ادَّعى رجل أنه ابتاع من آخر عينًا، واعترف المدَّعَى عليه بذلك لم يَجُزْ للحاكم الحكم بصحة البَيْع بمجرد ذلك حتى يدَّعِي المدَّعي أنه باعه العين المذكورة، وهو مالك لها، ويقيم البيِّنة بذلك، فأما لو اعترف البائع له بذلك لم يكن جواز الحكم بالصِّحة، لأن اعترافه يقتضي ادعاء الملك للعين المبيعة، وحيازته حال البيع، ولا يثبت ذلك بمجرد دعوى فلا بد من بيِّنة تشهد بملكه وحِيَازته حال البيع، حتى يسوغ للحاكم الحُكْم بالصِّحة، وأما الحكم بالموجَب بفتح الجيم، فمعناه الحكم بموجب الدَّعوى الثابتة بالبيِّنة، أو علم القاضي، أو غيرهما، هذا هو معنى الموجَب، ولا معنى للموجَب غير ذلك.
وكان رحمه الله لا ينظر بإحدى عينيه، مع حسن شكله وأبَّهته، واسْتَقَلَّ بقضاء مِصْر مددًا، وأجازه الشمس الكَرمَاني بإجازة عظيمة، ووصفه بالفضيلة مع صغر السنِّ، وتمثل فيه بقول الشاعر:
إن الهلالَ إذا رأيتَ نُمُوَّه … أيقَنْتَ أن سيصير بَدْرًا كاملًا