للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وعِبَادَتَهُ أَحبُّوه. وقرأ عليه طَلَبتُهم، وكنتُ إذْ ذَاك صَغيرًا عن القِراءةِ عَلَيْهِ، عُمُري اثْنَا عَشَر سَنةً، فأَحْضرُ مَعَ بَعْض أقاربي للاسْتِماعِ خلْفَ الحَلْقَة، ثم إنَّه رَجَعَ إلى بَلَدِه، فلمَّا قُتِل تُركي تَوَلَّى وَلَدُه فَيْصل، وصار لأهل عُنَيْزةَ نَوْع اخْتِيارٍ، فرَغِبُوا في المَذْكور في أَنْ يكُونَ لهم قَاضِيًا ومُفْتِيًا، ومُدَرَّسًا وخَطِيْبًا وإمَامًا، فركب أميرُهم وجَمَاعةٌ مَعَهُ، وجَاؤوا به وبِعِيَالِهِ، فَتَبِعَهُ كثيرٌ من أصْهارِهِ، فَلَمَّا قَدِم عُنَيْزَةَ هُرِعَ إليه أهْلها للسَّلامِ عَلَيه، وأقَامُوا له الضِّيَافة، نحوَ شَهْر، وشَرَعُوا في القِرَاءة عَلَيْه، فَشَرَعْتُ مع صِغَارِهم في ذلكَ إلى أن أنْعَم اللهُ وتَفَضَّل، فقرأتُ مع كبارهم "شرْح المُنْتَهى" مِرَارًا، وفي "صحيح البخاري"، و"مسلم"، و"المنتقى"، وقَرأتُ وَحْدي "شرْح مُخْتَصَر التَّحْرِيْر" في الأصول و"شَرْح عَقِيدة السَّفَارِيْني" الكَبِير، ومع الغَيْر في رسائل عقائد "كالحمَويَّة"، و"الوَاسِطِيَّة"، و"التَّدْمُرِيَّة"، وكان يقرِّر تقريرًا حَسَنًا، وَيسْتحضِرُ اسْتِحْضارًا عجِيْبًا، إذا قرَّرَ مَسألة يقول: هذه عِبَارَةُ "المُقْنع" مثلًا، وزاد عليها المُنَقِّح كَذا، ونَقَّص منها كَذَا، وأَبْدَل لَفْظةَ كذا بهذِهِ، مع شِدة التثَبُّتِ والتَّأمُّل إذا سُئل عن مسألة واضِحَة لا تَخْفى على أدْنى الطَّلَبة تأنَّى في الجَوَاب، حَتَّى يَظُنَّ الجَاهِل أنَّه لا يَعْرفُها، والحَال أنَّه يعرف مَنْ نَقَلها ومَنْ رَجَّحها، ومَنْ وَضَعَها ودَلِيْلَها، وأمَّا اطِّلاعُهُ على خِلافِ الأئمة الأَرْبَعَة بَلْ وغَيْرِهم من السَّلَف، والرِّواياتِ والأقْوَالِ المَذْهَبِيَّة، فأَمْر عَجِيب ما أعْلَم أنِّي رأيتُ في خُصوص هذا من يُضاهِيْه، بَلْ ولا من يقاربه، وكان له جَلَدٌ على التَّدْريس، لا يَمَلُّ ولا يَضْجَرُ، ولا يرُدُّ طالبًا في أيِّ كِتَابٍ، كَرِيْمًا سَخِيًّا، يأتِيْه كثيرٌ من أهْل سُدَيْر والوَشْم برَسْم القِراءَة عَلَيْه، فيَقُومُ بكفايتهم سَنَةً أو أكْثر أو أقَلّ، ساكنًا وَقُورًا، دائم الصَّمْتِ، قليلَ الكَلامِ في كلِّ شيء، كثير العِبَادة والتَّهَجُّد، مُوَاظِبًا على دَرْسَي وَعْظ بَعْد العَصْر وبَيْن العِشَاءيْن في المَسْجِد الجَامِعِ، قليلَ المجيء إلى النَّاس، وكان في أيَّام سُعُود وأخَذِهِ الحَرَميْن فيْمَا بَعْد العِشْرين، ولَّاهُ قَضَاءَ الطَّائِفِ، فسمعْتُ منهم الثَّناء التَّام، بحُسْنِ السِّيرة، ولُطْفِ المُعَامَلَة، والإعْراض عن أمورهم جملةً، مع اقْتِدارِهِ على القَتْل فَمَا دُونه، ومع ذلك فلَمْ يُوءْذِ أحدًا في نَفْسِ ولا مال ولا عِرْضٍ، وهكذا العَفَافُ المَحْض قي تِلْكَ الأيَّام التي اسْتأسَدتْ فيها الثعالب. وقرأ عليه جَمَاعةٌ في التَّفْسِير والحَدِيث، والتَّوحِيْد وعَقَائِد السَّلَف، وقَرَأ هو على