والشَّيخ محمدٌ بنُ عمرَ بنِ سليم وغيرهما، وحَصَّل واستفادَ، ووَلِيَ القضاءَ بعدَ أبيه مِنْ قبل الإمام عبد العزيز بنِ عبد الرَّحمن آل فَيْصَل، ووَلِيَ التدريسَ بها، وخطابةَ الجامع، ونَال من الحُظْوَة والجاهِ ما لم يَنَلْهُ غَيْرُهُ ولأهلِ بلدِهِ فيه اعتقادٌ عظيمٌ، وكان بيدِهِ الحَلُّ والعَقدُ، وكانَ رحمه الله مواظبًا على التدريسِ، ولهُ في ذلك مجالس عديدةٌ منها بعدَ صلاةِ الصُّبْحِ في النحو إلى ارتفاعِ الشَّمس، ثم يخرجُ إلى بيته قليلًا بعدَ صلاةِ الضحى، ثم يرجعُ ويجلسُ للطلبة في الحديث، والفِقْه، والتَّوْحِيد إلى ارتفاع النَّهار، وذلك بالمسجد الجامع، ثم يخرجُ ويجلسُ للخُصوم إلى قريبِ الظُّهْرِ، ثم يذهبُ إلى بيته ثم يأتي إلى المسجدِ، ويُصلي الظهر بالجماعة إمامًا ثم يجلسُ للطلبة في الدُّرُوس المتقدِّمَةِ إلى قَريب العَصْر، ثم يذهب إلى بيته إلى أذان العصر، ثم يرجع ويصلي العصر بالجماعة، ويقرئ مجلسًا في الوَعْظِ للعامَّةِ، وذلك بقراءَةِ فَصْلٍ من "مشكاة المصابيح"، أو "رياض الصَّالحين" يتكلَّمُ على ذلك الفصل بكلامٍ يُلائمُ الحاضرين، وفهمهم من غير تكلف، ثم يخرجُ ويجلسُ للخُصوم إلى قريبِ غروبِ الشَّمس، ثم يجلس بعد المغرب للطلبة في الفرائِض خاصَّة إلى قريبِ العشاء، ثم يقرأ مجلسًا في "تفسيرِ ابنِ جرير" أو "ابن كثير" للعامَّة إلى وقت الصَّلاة فيصلي، ثم ينصرف إلى بيته، وكان لا يَمَل ولا يَضْجَرُ من التدريسِ، وكانَ حسنَ التقرير جدًا، فصيحَ اللَّسان، حلوَ المنطِق والمفاكهة، منجمعًا عن النَّاسِ انجماعًا كليًا، لا يغشى أحدًا، ولا يُمَكَّنُ أحدًا من خواصَّهِ وتلامِذَتِهِ وغيرِهم من المشي خلفَهُ ووَطءِ عقبه في الطَّريق، بل يمشي وَحْدَهُ، وكان خشن المأكلِ، والملبَسِ، والمسكَنِ، متقشفًا وَرِعًا، عابدًا زاهدًا، لا يميل إلى الدُّنيا وأهلها، بل طارحًا لها بالكليَّة، إذا رآه الرائي استفادَ برؤيته قبل أنْ يَسْمَع كلامَهُ، وكانَ على نهج السَّلَفِ، وطريقَةِ المتقدمين من اتباعِ السُّنَّةِ، والتقشف التامِّ، وطرحِ التكلُّفِ، ولينِ الجانب، وعدمِ مخالطَة أبناء الدُّنيا وأرباب الدولة، وكان منذ وَلِيَ القضاءَ لا يجيبُ دَعْوَةً، ولا يقبلُ هديةً، ولا يدخل بيتَ أحدٍ ما عدا رجلين أو ثلاثة، كان جرى ذلك بَيْنُه وبينهم قبلَ تولَّيْهِ القضاءَ، وكانَ محمودَ السَّيْرَة في القضاء، لا يحابي أحدًا، وكانَ شديد الغضب في الله لا تأخُذُهُ في اللهِ لَوْمَةُ لائِمٍ، ولا يهابُ أحدًا، وكانَ غزيرَ لومْة، لا ترتفع له دمعة من الخشية، وجعلَ اللهُ في علمه البركةَ،