للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

معمورًا، وكل فقيه عنده من فَضْله وإِفْضَاله مغمورًا، فأنَخْتُ راحلتي بربْعِه، وحَطَطْتُ زاملةَ بُغيتي على شِرْعَةِ شَرْعِه، فوجدت الفضلَ الغزير، والدينَ القويم المُنير، فتلقَّاني بصدرٍ بالأَنوار قد شُرِع، ومنطقٍ بالادِّكار قد ذُكرَ ومُدِح، وببابٍ إلى كلِّ باب من أبواب الخيرات قد شُرِع وَفُتح، فتح الله عليه حفظَ القرآنِ العظيم، وهو في حداثة سِنِّه، ولاحت عليه أعلامُ المشيخة فرجح مَنُّه على كل مَنٍّ بفضل الله ومنِّه، ثم قال: لم يُنْقَل أنَّه لهى أو لعب، ولا طرق باب طَرَب، ولا مشى إلى لذة ومشتهى، وقد قال لي ابن المَنِّيّ: قدمتُ في زمان أقوام ما كنت أصلحُ أنْ أُقَدِّمَ مَدَاسَهُم. وقال أيضًا لي: ما أذكر أحدًا قرأ علي القرآن إلَّا حفظَة، ولا سَمعَ درسَ الفقه إلَّا انتفع. ثم قال: هذا حظي من الدنيا.

وقال ابن الحنبلي: وما تزوج ولا تَسَرَّى، ولا ركب بغلة ولا فرسًا، ولا مَلَكَ مملوكًا، ولا لَبسَ الثيابَ الفاخرةَ إلَّا لباسَ التقوى، وكان أكثرُ طعامه يشرب في قَدَح ماء الباقلاء، وكان إذا فُتِحَ عليه بشيء فَرَّقه بين أصحابه، وكان لا يتكلَّم في الأصول، ويكره مَنْ يتكلَّم فيها، سليمَ الاعتقاد، صحيحَ الانتقاد في الأدلَّة الفرعية.

وقال ابن رجب: صرف همَّتَه طولَ عمرهِ إلى الفقه أصولًا وفُروعًا، مذهبًا وخلافًا، واشتغالًا وإشغالًا، ومناظرةً، وتصدَّر للدرسِ والإِشغال، والإِفادة، وطال عمره، وبَعُدَ صِيْتُه، وقَصَدَهُ الطلبةُ من البلاد، وشُدَّتْ إليه الرِّحال في طلب الفقه، وتخرَّج به أئمةٌ كثيرون، منهم ابن الجوزي، وفقهاء الحنابلة اليوم في سائر البلاد يرجعون إليه وإلى أصحابه، لأنَّ فقهاء زماننا إنَّما يرجعون في الفقه من جهة الكتب إلى موفق الدين بن قدامة المقدسي، ومجد الدين بن تَيْمية الحَرّاني، فأمَّا الشيخ الموفق فهو تلميذ ابن المَنِّي، وعنه أخذ الفقه، وأَمَّا ابنُ تيمية فهو تلميذ تلميذه أبي بكر بن الحلاوي، وكان مرضُ ابن المَنِّيّ الإِسهال، وذلك من تمام السعادة، لأَنَّ مرض البطن شهادة، وتوفي به يوم السبت رابع شهر رمضان، سنة ثلاث وثمانين وخمس مئة، ودُفِنَ يوم الأحد، ونودي في النَّاس بموته فانثال من الخلائق والأَمم عددٌ لا يحصى، وازدحم الناسُ، وخيف من الفتن فنفذ الولاةُ الأجنادَ والأتراكَ بالسلاح،