بعده إِجماع يبطله، ولكن رأى أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- أنّ الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، وكثُر منهم إِيقاعه جملة واحدة؛ فرأى من المصلحة عقوبتهم بإِمضائه عليهم؛ ليعلموا أنّ أحَدَهم إِذا أوقعه جملةً؛ بانت منه المرأة، وحرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره نكاح رغبة؛ يراد للدوام لا نكاح تحليل، فإِنه كان من أشد الناس فيه، فإِذا علموا ذلك كَفُّوا عن الطلاق المحرّم، فرأى عمر أنّ هذا مصلحة لهم في زمانه، ورأى أنّ ما كانوا عليه في عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعهد الصِّدِّيق وصدراً من خلافته كان الأليق بهم؛ لأنهم لم يتتابعوا فيه، وكانوا يتَّقون الله في الطلاق، وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجاً، فلما تركوا تقوى الله وتلاعبوا بكتاب الله وطلّقوا على غير ما شرعه الله ألزمهم بما التزموه عقوبةَ لهم؛ فإِنّ الله -تعالى- إِنّما شرع الطلاق مرة بعد مرة، ولم يشرعه كله مرة واحدة، فمن جمع الثلاث في مرة واحدة فقد تعدّى حدود الله، وظلم نفسه، ولعب بكتاب الله، فهو حقيق أن يُعاقب، ويُلْزَمَ بما التزمه، ولا يُقرّ على رخصهّ الله وسعَتِه، وقد صعَّبها على نفسه، ولم يتق الله ولم يُطلِّق كما أمَره الله وشرع له، بل استعجل فيما جعل الله له الأناة فيه رحمة منه وإحساناً، ولبّس على نفسه، واختار الأغلظ والأشد؛ فهذا مما تغيرت به الفتوى لتغير الزمان، وعلم الصحابة -رضي الله عنهم- حُسن سياسة عمر وتأديبه لرعيته في ذلك فوافقوه على ما ألزم به، وصرحوا لمن استفتاهم بذلك ... " (١).
وأما فتاوى بعض الصَّحابة -رضي الله عنهم- التي نصّت على إِيقاع من طلّق ثلاثاً في مجلسٍ واحد ووقوعه ثلاثاً؛ ففيها آثار ثابتة.
(١) وانظر ما قاله العلامة ابن القيّم -رحمه الله- كذلك في "زاد المعاد" (٥/ ٢٤١).