للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأمَرَه الله -تعالى- بالجهاد مِن حين بعثَه، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} (١). فهذه سورة مكيّة أَمر فيها بجهاد الكفار، بالحُجَّة، والبيان، وتبليغِ القرآن، وكذلك جهادُ المنافقين، إنما هو بتبليغ الحُجَّة، وإلا فَهُم تحت قهر أهلِ الإسلام، قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (٢). فجهادُ المنافقين أصعبُ مِن جهاد الكفار، وهو جهادُ خواصِّ الأمَّه، ووَرَثةِ الرُّسل، والقائمون به أفرادٌ في العالم، والمشاركون فيه، والمعاونون عليه -وإنْ كانو اهم الأقلِّين عدداً- فهم الأَعْظمون عند الله قَدْراً.

ولمَّا كان مِن أفضلِ الجهاد قولُ الحقِّ مع شدة المُعَارِضِ، مِثل انْ تتكلَّم به عند مَن تُخاف سطوتُه وأذاه، كان للرسلِ -صلوات الله عليهم وسلامُهُ- مِن ذلك الحظُّ الأوفَرُ، وكان لنبيِّنا -صلوات الله وسلامُه عليه- مِن ذلك أكملُ الجهاد وأَتّمُّه.

ولمَّا كان جهاد أعداء الله في الخارج؛ فَرْعاً على جهاد العبد نفسه في ذات اللهِ، وكما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "المجاهدُ مَنْ جَاهدَ نفسَهُ في طاعةِ الله (٣)، والمُهاجِر مَنْ هَجَرَ


(١) الفرقان: ٥١، ٥٢.
(٢) التوبة: ٧٣.
(٣) أقول: وبهذا فجهاد أعداء الله -تعالى- في الخارج مفتقرٌ إلى جهاد النفس، ولا يُقبَل الجهاد، ولا تُنالُ الشهادة في سبيل الله -سبحانه- إلاَّ بمجاهدة النفس، وتجريدها مِن الحظوظ والهوى، فرُبَّ رجلٍ قُتِل في الميدان؛ سُحِب على وجهه في النار يوم القيامة، لأنه قاتَل رياءً وسمعةً، ورُبَّ رجلٍ مات على فراشه لمرضٍ أو عذرٍ؛ بلَّغه الله منازل الشهداء لإخلاصه وَصِدْقِه.

<<  <  ج: ص:  >  >>