وجاء رجل شاب عليه أطمار فاستأذن، فخرج إليه أحمد فقال: السلام عليك يا أبا عبد الله، أخبرْني، ما الزهد في الدنيا؟ فقال أحمد: قصر الأمل. فقال: صفه لي. فقال: هو أن لا تبلغ من الشمس إلى الفيء، وكان الشاب قائمًا في الشمس، والفيء بين يديه، فذهب الفتى ليولي، فقال له أحمد: قف. قال: فدخل، فأخرج له صرة، فدفعها إليه، فقال له: يا أبا عبد الله، من لا يبلغ من الشمس إلى الفيء أيُّ شيء يصنع بهذا؟ ثم تركه وولَّى.
قلت: وهذا باب واسع أيضًا، تركته رغبة في الاختصار.
وأما تنويه ذكره فقد تقدم في ذكر منشئه في صباه أنه كان مرتفعَ الذكر من زمن الصبا. قال له أبو بكر المَرُّوذي: ما أكثر الداعي لك! قال: أخاف أن يكون هذا استدراجًا، أي شيء هذا؟.
وقال له: إن رجلًا قدم من طرسوس، فقال لي: إنا كنا في بلاد الروم في الغزو، إذا هدأ الليل رفعوا أصواتهم بالدعاء: ادعوا لأحمد بن حنبل. وكنا نمد المنجنيق، ونرمي عنه، ولقد رمي عنه بحجر والعلج على الحصن متترس بدرقة، فذهب برأسه وبالدرقة. فتغير وجهه وقال: ليته لا يكون استدراجًا. ثم قال: ترى هذا استدراجًا؟ قلت: كلا.
وقال أحمد بن علي الأبَّار: دخلت بخارى فإذا رجل أشقر أحمر، فقال: من أين أنت؟ قلت: من أهل بغداد. قال: فما فعل أحمد بن حنبل؟ قلت: تركته في الحياة، فرفع رأسه يقول: اللهم … يدعو له، فقلت لمن معي: هذا أقصى الإِسلام، هذا موضع التُّرك، فهل بقي شيء؟.
وقيل لأحمد بن حنبل: إن رجلًا من بلاد التُّرك يدعو لك في الناس، فكيف تؤدِّي شكر ما أنعم الله عليك، وما بثَّ لك في الناس؟ فقال: أسأل الله أن لا يجعلني من المرائين.