وأتْقَنَه على ظهرِ قلبه، ثم انبعثت همتُّه إلى طلبِ العلم، فأخذ عن علمائِها في ذلك العصر، ثم رحل في طلب العِلْم إلى دمشقَ، ومصر، والعراق، ومكة، وأخذ بها عن الشيخ شعيب المكي وأحمد بن عيسى، وغير ذلك من البلدان، وبلغ الغَايَةَ القُصْوَى في جميعِ العلوم، ثم رجع إلى بُرَيْدَة وَمَعَهُ ثروةٌ كبيرةٌ من الكتبِ المخطوطة والمطبوعة، من الكتب الغريبة التي لا توجَدُ عند غيره، فأخذ في نشر العلم بها، وتخرج به عامَّةُ أهلها، وانتفعوا به انتفاعًا تامًّا، وأنجب تلامِذَةً علماءَ أَجِلَّاءَ فُضَلأَ، عُبَّادًا زُهَّادًا، وما ذلك إلَّا لحسن قصدِهِ، فإنَّ غالب علماءِ بُرَيْدَة اليوم من تلامذته، ووَليَ القضاءَ بِبُرَيْدَة وببلد عُنَيْزَة، وكانَ مشكورَ السيرة في القضاء لا يُحَابي أحدًا، وكان قَوَّالًا بالحق، أمَّارًا بالمعروف، نَهَّاءً عن المنكر، لا تأخُذُه في اللهِ لَوْمَةُ لائِم، وكانَ على جانبٍ عظيمٍ من الزُّهْدِ، والوَرَعِ، والعبادة، لا يستطيعُ أحدٌ أنْ يصفَ ما كانَ عليهِ من ذلكَ إلَّا مَنْ رآه، وَرأى ما هو عليه من ذلك، وكان سَخِيًّا جِدًا بحيثُ إنَّهُ يأتيه المال الكثير فلا تَغْرُبُ شمسُ يومه ذلك إلَّا وقد فَرَّقَهُ بينَ تلامِذَته، ومستحقِّيه لا يَدَّخِرُ لنفسه شيئًا من ذلك، وكان رُبَّما يأتيه الفقيرُ يسأَلُه فلا يَجِدُ ما يعطيه فيعطيه أحدَ ثيابِهِ إذا كان عليه ثوبان، ووجد يومًا فقيرًا في المسجد في الشِّتَاء في شدَّة البرد وهو يرتعش من البرد، فأعطاهُ عباءَتَه التي على ظهره، ورجع إلى بيته بدون عباءة، وكان محبًا للفقراء والمساكين، منبسطًا إليهم، واصلًا لهم، ليِّنَ الجانب جدًّا، لا يخلو بَيتُه يومًا من الفقراء، ولا يأكل طعامَهُ وحَده، بل يجتمع عليه من الخمسةِ إلى العشرين في كل وَجْبَة، ومع ذلك فإنَّهُ على كثرة ما يأتيه من الصَّدَقَات من البَصْرَة، والشام، ومصر، والعراق، والحجاز، وغيرها لما مات، مات مدينًا، فأخبرني أخوه عبدُ الله بنُ حمد الجاسر أنَّهُ مات مدينًا بمبلغ قدره ثمانية آلاف ريال، فبيعت بذلك بعضُ كتبه الملكية مع أنَّ أكثر كتبِهِ تهدى إليه موقوفةً عليه وبعده على طلبة العلم من تلامذته، فبيعت بعضُ الكتب الملكية المذكورة بمبلغٍ يزيد على الرَّقم المذكور، وأوفيَ دَينُه منها، وبقِي الباقي لم يُبَعْ بعد، وكان رحمه الله حادَّ الذهن جدًا، قوي الحافظة، إذا تكلم في مسألة ظنَّ السامعُ أنَّه لا يعرف غيرها، فإنَّه إذا أخذ في التقرير واسترسلَ في ذلك يقول السامع: إنَّه قد جمع الله له علوم الأَوَّلين والآخرين بين عينيه يأخذ ما شاء، ويدع ما شاء،