وامتاز في معرفة فنون الحديث، والتفسيرِ، والفِقْه، والأصول، مع مشاركته في غيرها من الفُنون، وبالجملة فهي الوحيد الذي لم تَرَ عيني مثَلَه، بل لم يَرَ هُوَ مثلَ نفسِهِ علمًا وعملًا، وزهدًا وورعًا، وصَدْعًا بالحق، ولو أردتُ جمعَ سيرتِهِ مما شاهدتُه وسمعتُه لملأتُ مُجلَّدًا كبيرًا، وكان رحمه اللهُ سريعَ الدَّمْعَةِ، غزيرَها، لا يستطيعُ الوَعْظَ من البكاءِ، وكانَ القارئَ عليه في أوقاتِ الوَعْظِ بعد العصر وبين العشاءين على عادة أهل نجد بتخصيص هذه الأوقاتِ لوعظ العَامَّة الشيخُ صالحٌ بنُ ناصر بنِ سيف في مسجد والده الشيخ ناصر بنِ سيف، فإذا مَرَّ القارئُ المذكورُ بآيةٍ أو حديثٍ فيه تخويفٌ أو رجاءٌ أخَذَ في البكاء، والنحيب، بحيث يقطع القارئ المذكور قراءته خشيةَ أنْ يُغْمَى عليه حتى يهدأ رحمه الله، وبالجملة فقد كان فريدَ عصرِهِ، ووحيدَ دهره، ومع هذا فقد ابتُلِيَ، وامتُحِنَ، وأوذِيَ، ولم يمنعه ذلك عنِ القيام بواجبِ العِلْم من الصَّدْعِ بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتَّى تَوفَّاهُ اللهُ تعالى، وله رسائلُ، وكتاباتٌ كثيرةٌ في غاية التحقيقِ، ولقد رأيتُ له على كتاب "شرح دليل الطالب" للتغلبي كتاباتٍ، فقد ملأَ حواشيه بقلمه النيِّرِ المضبوطِ بالتحقيقاتِ المهمَّةِ التي لا يستطيع كتابتها غيرُه من ترجيحِ القول الأسعد بالدليل، غيرَ عابئ بما خالفه من أقوال الفقهاء، مما يدل على أنَّهُ لا يأخذ إلَّا بما صَحَّ عِنْدَه دليلُه من كتاب أو سُنَّة، وعلى اطلاعه الواسع على أدِلَّة المجتهدين رحمه الله، وقد جمعَ رحمه الله من الكتبِ النَّافِعَة النَّادِرَة ما لم يَجْمَعْهُ عالمٌ قبله في تلك البلد فيما علمت، انتقلَ رحمه الله من وطنه بُرَيْدَة إلى حائل فتلقاه أهلُها وأميرُها بالإكرام، وجَلَسَ مُدَّةً يسيرةً، ثم انتقل إلى بلد الكويت فتلقاه أهلها وأميرُها مباركٌ الصباح بالإكرام أيضًا، وكان مريضًا فطلب الأمير مبارك الصباح له الطبيبَ الموجودَ هناك، وكانَ نَصْرَانيًا فأحضره لعلاجهِ فعَلِمَ الشَّيْخُ أنَّهُ نصراني فامتنعَ الشيخ من ذلك، وقال: لستم في حلًّ من إدخاله علي فوافاه حِمَامهُ هناكَ فصُلَّي عليه، وشُيِّعَ بحفلٍ يفوقُ الوَصْفَ كثرةً، ودُفِنَ بالكويت وتأسَّف الناسُ عليه ورثي بمراثٍ كثيرةٍ لا يسعُ المقامُ ذكرَها، وذلك في سَنَةِ ثمانٍ وثلاثين وثلاث مئة وألف رحمه الله وعفا عنه.