المناصب بين يديه، وهو راكبٌ وأحْضر القُرَّاء والشعراء، وكان يومًا مشهودًا، وقُرِئَ عَهدُه، وخوطب فيه بالوزير العالم، العادل، عون الدين، جلال الإِسلام، صفي الإِمام، شرف الأنام، مُعِزَّ الدولة، مُجِيرِ المِلَّة، عماد الأُمة، مصطفى الخلافة، تاج الملوك والسلاطين، صدر الشرق والغرب، سيد الوزراء. وقال يومًا: لا تقولوا في ألقابي سَيَّدَ الوزراء، فإنَّ الله سبحانه وتعالى سَمَّى هارونَ وزيرًا. وجاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ وزيرَيْه من أهل السماء، جبريلُ وميكائيلُ، ومن الأرض أبو بكر وعمر.
وقال مرة في وزارته: والله لقد كنت أسألُ الله تعالى الدنيا، لأخدم بما يرزقني منها العِلْمَ وأهلَهُ، وكان سبب هذا أنه ذكر في مجلسه مفردات الإِمام أحمد التي انفرد بها عن الأئمة الثلاثة، فادعى أبو محمد الأَشِيْرِي المالِكي أنَّها روايةٌ عن مالك، ولم يُوافقه على ذلك أحد، وأحضر الوزيرُ كتبَ مفردات الإِمامِ أحمدَ، وهي منها، والمالكي مقيمٌ على دعواه، فقال له الوزير: أَبَهيمةٌ أنت؟ أما تسمع هؤلاء يشهدون بانفراد أحمد بها، والكتب المصنفة، وأنت تنازع وتفرِّق المجلس؟ فلما كان المجلس الثاني، واجتمع الخلق للسماع، أخذ ابن شافع في القراءة، فمنعه الوزير، وقال: كان الفقيه أبو محمد جرى أمْسِ في مسألة، على ما لا يليقُ به من العُدُول عن الأدب والانحراف عن نهج النظر، حتى قلت تلك الكلمة - أيْ قولُه أنت بهيمة - وها أنا، فليقل لي كما قلت له، فإني لستُ بخير منكم، وما أنا إلَّا كأحدكم، فَضَجَّ المجلس بالبكاء، وارتفعت الأصواتُ بالدعاء والثناء، وأخذ الأَشِيْرِي يَعْتَذِرُ ويقول: أنا المذنب، والأولى بالاعتذار من مولانا الوزير، ويقول: القِصَاصَ القِصَاص، فقالَ يوسف الدمشقي: إذًا فالغداء، فقال له الوزير: له حكمه، فقال الأشِيْرِي: نِعَمُك عَليَّ كثيرة، فَأيُّ حُكم بَقِيَ لي؟ فقال: قد جعل الله لك الحكم علينا، فقال: عليَّ بقيةُ دَيْن منذ كنت بالشام، فقال الوزير: يُعطى مئة دينار لإِبراء ذمته وذمتي، فأُحْضِرتْ له.
قال ابن الجوزي: كان يتحدَّث بنعم الله عليه ويذكر في مَنْصِبِهِ شِدَّةَ فقرِه القديم، فيقول: نزلت يومًا إلى دِجلة، وليس معي رغيفٌ أعبر به. ودَخل عليه يومًا تركي فقال لحاجبه: أما قلت لك: أعطِ هذا عشرين دينارًا، وكُرًّا من الطعام، وقل له: