الضعف، وعجزت عن التماسك، فدخلت إليه وقعدت في جانب منه، وقد كدتُ أصافح الموت، إذ دخل الباب أعجمي ومعه خبز رصافي وشواء، وجلس يأكل، فكدت كلما رفع يده باللقمة أن أفتح فيَّ من شدة الجوع، حتى أنكرتُ ذلك على نفسي، وقلت: ما هذا؟ إذ التفت إليَّ العجمي فرآني، فقال: بسم الله يا أخي، فأبيت، فأقسم عليَّ، فبادرت نفسي فخالفتها، فأقسم أيضًا فأجبته وأكلت، فأخذ يسألني من أين أنت وبمن تعرف؟ فقلت: أنا متفقِّه من جِيْلان، فقال: وأنا من جِيلان، فهل تعرف شابًا جِيْلانيًا يسمى عبد القادر، يعرفَ بأبي عبد الله الصومعي الزاهد؟ قلت: أنا هو، فاضطرب وتغيَّر وجهه، وقال: والله لقد وصلت إلى بغداد ومعي بقية نفقةٍ لي، فسألت عنك فلم يُرشِدْني أحدٌ، ونفدت نفقتي، ولي ثلاثة أيام لا أجد ثمن قوتي إلا مما كان ذلك معي، وقد حلَّت لي الميتة، وأخذت من وديعتك هذا الخبزَ والشواء، فكُل طيبًا فإنما هو لك وأنا ضيفك الآن بعد أن كنت ضيفي، فقلت له: وما ذاك؟ فقال: أمُّك وجهت لك معي ثمانية دنانير، فاشتريت منها هذا للاضطرار، وأنا معتذر إليك، فسكَّنْتُه وطيَّبتُ نفسه، ودفعت إليه باقي الطعام وشيئًا من الذهب برسم النفقة، فقبله وانصرف.
وقال ابن النجار: سمعت عبد الرزاق بن الشيخ عبد القادر يقول: وَلَدَ والدي تسعًا وأربعين ولدًا، سبع وعشرون ذكور والباقي إناث، ومات الشيخ عبد القادر رحمه الله عَتَمة ليلة السبت عاشر ربيع الآخر، سنة إحدى وستين وخمس مئة، وفرغ من تجهيزه ليلًا، وصلى عليه ولده عبد الوهاب في جماعة من حضر من أولاده وأصحابه وتلامذته، ثم دفن في رواق مدرسته، ولم يفتح باب المدرسة حتى علا النهار، وأهرع الناس للصلاة على قبره، وكان يومًا مشهودًا، وقد بلغ من العمر تسعين سنة. انتهى المراد من ترجمة هذا الشيخ الجليل التي لا يسع الإِتيان ببعضها في هذا المختصر.
وله مصنفات كثيرة ذكر ابن رجب (١) منها: كتاب "الغنية لطالبي طريق الحق"، وكتاب "فتوح الغيب"، وله غير ما ذكره كتاب "تحفة المتقين وسبيل العارفين"،