قال بعض الخدام: وكان المتوكل قاعدًا وراء الستر، فلما أدخل أحمد الدار قال لأمه: قد أنارت الدار، ثم جاء خادم بمنديل، فأخذ يحيى المنديل، وأخرج مبطنة فيها قميص، فأدخل يده في جيب القميص والمبطنة، ثم أخذ بيده فأقامه حتى أدخل جيب القميص والمبطنة في رأسه، ثم أدخل يده فأخرج يده اليمنى وكذا اليسرى وهو لا يحرك يده، ثم أخرج قلنسوة فوضعها على رأسه، وألبسه طيلسانًا، ولم يجيؤوا بخف، فبقي الخفُّ عليه، ثم انصرف، فلما صار إلى الدار نزع الثياب عنه وجعل يبكي، ثم قال: سلمتُ من هؤلاء منذ ستين سنة، حتى إذا كان في آخر عمري بُليت بهم! ما أحسبني سلمتُ من دخولي على هذا الغلام، فكيف بمن يجب عليّ نصحه من وقت أن تقع عيني عليه إلى أن أخرج من عنده؟ ثم قال يا صالح وجِّه هذه الثياب إلى بغداد تباع ويتصدق بثمنها، ولا يشتري أحد منكم شيئًا، فبيعت وفرق ثمنها.
قال صالح: فأخبرناه أن الدار التي هو فيها لإِيتاخ. فقال: اكتب رقعة، إلى محمد بن الجراح استعف لي من هذه الدار، فكتبنا رقعة فأمر المتوكل أن يُعفى منها، ووجه إلى قوم أن يخرجوا من منازلهم، فسأل أن يُعفى من ذلك، فاكتُرِيَتْ لنا دار بمئتي درهم، فصار إليها، وأجريت لنا مائدة وثلج، وضرب الخيش وفرش الطبري، فلما رأى الخيش والطبري تنحى عن ذلك الموضع، وألقى نفسه على مضربة له، واشتكت عينه ثم برأت بسرعة.
قال أبو بكر المروذي: قال لي أحمد ونحن بالعسكر: لي اليوم ثمان منذ، لم آكل ولم أشرب إلا أقل من ربع سويق. وكان يمكث ثلاثًا لا يطعم، فإذا كانت الرابعة أضع بين يديه قدر نصف ربع سويق، فربما شربه، وربما ترك بعضه. وقال صالح: جعل أبي يواصل في العسكر، يفطر في كل ثلاث على تمر شهريز، فمكث بذلك خمسة عشر يومًا، يفطر في كل ثلاث، ثم جعل بعد ذلك يفطر ليلة وليلة لا يفطر إلا على رغيف، وكان إذا جيء بالمائدة توضع في الدهليز لكي لا يراها، فيأكل من حضر، وكان إذا جهده الحر تُلقَى له خرقة فيضعها على صدره، وفي كل يوم يوجه المتوكل بابن ماسَويْهِ ينظر إليه ويقول: يا أبا عبد الله، أنا أميل إليك وإلى أصحابك،