التمسكُ بشيء من العمومات أو أكثرِها، إذْ ما من عالم إلا وله أحوالٌ متعددة بالنسبة إلى الذوات التي يتعلَّقُ بها العمومُ، فإذا اكتفينا في العمل بحالة من الحالات، تعذَّرَ الاستدلالُ به على غيرها، وهذا خلافُ ما دَرَج عليه الناس، و - أيضاً -: فإن الأصوليين يعتمدون في إثبات العموم على (حُسن اللَّوْم) فيمن خالف مقتضى العموم.
ولو قلنا بهذا القول: لزم أن يكون السيدُ إذا قال لعبده: من دخل الدار فأعطه درهمًا، فدخل الدار أقوامٌ لا يُحصَون فلم يعطهم شيئًا: أن لا يتوجَّهَ اللومُ على العبد؛ لأن له أن يقول: لفظُك عامٌّ في الذوات، مطلقٌ بالنسبة إلى الأحوال والأزمان، فأنا أعمل بلفظك فيمن دخل من الطِّوال، ولا أعمل به في غيرهم، أو فيمن دخل آخرَ النهار، أو آخرَ العمر، وأكونُ قد عملت بمقتضى اللفظ، لكنَّ ذلك سببُ اللومِ جزماً.
التاسعة عشرة: اللفظُ العامُّ وضعاً، تارةً يظهر فيه قصدُ التعميم وتأسيسُ القواعد، فلا إشكالَ في العمل بمقتضى عمومه، وتارةً يظهر فيه أنه قُصِد به معنى غيرُ عام، فهل يُتمسَّك بعمومه؛ لأن القصدَ إلى بيان معنى لا ينافيه تناولُ اللفظَ لغير ما قُصِدَ، فلا تتعارض إرادتُهما معاً؟ أو يقال: إن الكلامَ في غير المقصود منه مُجَملٌ يُبيَّن من جهةٍ أخرى؟
هذا ما تكلم فيه أهل الأصول (١)، ومُثِّل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فيما سَقَتِ
(١) انظر: "البرهان" للجويني (١/ ٣٥٤)، و"المستصفى" للغزالي (ص: ٢٥١)، و"البحر المحيط" للزركشي (٤/ ٧٧)، وما بعدها، وقد نقل عن الإمام ابن دقيق كلامه هنا.