المقام الأول: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إذا أَرسل اللهُ إليه المَلَكَ بوَحيِهِ، فإنه يَخلُقُ له العِلمَ به حتى يتحقَّقَ أنه رسولٌ مِن عنده، ولولا ذلك لَمَا صَحَّتِ الرسالة، ولا تَبيَّنَتِ النبوَّةُ، فإذا خَلق اللهُ له العلمَ به تَمَيَّز عنده مِن غيرِه، وثَبَت اليقينُ، واستقام سَبيلُ الدين، ولو كان النبيُّ إذا شافَهَه المَلَكُ بالوحي لا يَدري، أَمَلَكٌ هو، أم شيطانٌ، أم إنسانٌ، أم صورةٌ مخالِفةٌ لهذه الأجناسِ ألقَتْ عليه كلامًا، وبَلَّغت إليه قولاً؟ لم يَصحَّ أن يقول:"إنه من عند الله"، ولا ثَبَت عندنا أنه أَمْرُ الله، فهذه سبيلٌ متيقَّنةٌ، وحالةٌ متحقَّقةٌ لا بد منها، ولا خلافَ في المنقولِ ولا في المعقولِ فيها، ولو جاز للشيطان أن يتمثَّل فيها أو يتشبَّه بها، ما أَمِنَّاه على آية، ولا عَرَفنا منه باطلاً من حقيقة، فارتفع بهذا الفصلِ اللَّبْسُ، وصَحَّ اليقينُ في النفس.
المقام الثاني: أنَّ اللهَ قد عَصَم رسولَه من الكفر، وأمَّنه مِن الشِّرك، واستَقرَّ ذلك من دينِ المسلمين بإجماعِهم فيه وإطباقِهم عليه، فمَنِ ادَّعى أنه يَجوزُ عليه أن يَكفُرَ بالله، أو يَشُكَّ فيه طَرْفَةَ عينٍ، فقد خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسلام من عُنقه، بل لا تَجوزُ عليه المعاصي في الأفعال، فضلاً عن أن يُنسَبَ إلى الكفرِ في الاعتقاد، بل هو المنزَّه عن ذلك فِعلاً واعتقادًا - صلى الله عليه وسلم -، وقد مَهَّدنا ذلك في كُتب الأصول بأوضحِ دليل.
المقام الثالث: أنَّ الله قد عرَّف رسولَه بنفسه، وبَصَّره بأدلَّته، وأراه ملكوتَ سماواتِه وأرضِه، وعَرَّفه سُنَنَ مَن كان قبلَه من إخوتهِ، فلم يكن يَخفَى عليه مِن أَمْرِ اللهِ ما نعرفه اليوم، ونحن حُثالةُ أُمَّتِه، ومَن خَطَر له ذلك فهو ممن يَمشِي مُكِبًّا على وجهِه، غيرَ عارفٍ بنبيِّه ولا بربِّه.