الانتقامُ من الهاجي، ولهذا قَرَنَ هذا الرجلُ خَرْقَ العِرْضِ بسفك الدَّم، فعُلم أن كليهما موجِبٌ للقتل، وأن خَرْق عِرْضِهِ كان أعظمَ عندهم من سفكِ دماءِ المسلمين والمعاهدين.
ومما يوضِّحُ هذا أن النبيَّ لم يُهدِرْ دمَ أحدٍ من بني بكر الناقضين للعهد بعينه، وإنما مَكَّن منهم بني خزاعةَ يومَ الفتحِ أكثرَ النهار، وأهدَرَ دمَ هذا بعينه حتى أسلم واعتذر؛ هذا مع أن العهدَ كان عهدَ هُدنةٍ ومُوادعة، لم يكن عهدَ جزيةٍ وذِمَّة، والمهادنُ المقيمُ ببلده يُظهِرُ ببلده ما شاء من مُنْكَراتِ الأقوالِ والأفعالِ المتعلِّقةِ بدينهِ ودنياه، ولا يَنتقضُ بذلك عهدُه حتى يحارِب؛ فعُلم أن الهجاءَ من جنسِ الحِرابِ -وأغلظُ منه-، وأن الهاجيَ لا ذمَّةَ له.
الحديث الثامن: قصَّةُ عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح:
° وهي مما اتفق عليها أهل العلم، واستفاضت عندهم استفاضةً يُستغنى بها عن روايةِ الآحاد، وذلك أثبتُ وأقوى مما رواه الواحدُ العدل، فنذكرها مسندةً مشروحةً ليتبيَّنَ وجهُ الدلالة منها:
° عن مصعبِ بن سعدٍ، عن سعدِ بن أبي وقاص قال:"لَمَّا كان يومُ فتح مكة، اختبأ عبدُ الله بنُ سعد بن أبي سَرْحٍ عند عثمانَ بنِ عفان، فجاء به حتى أوقفه على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، بَايع عبدَ الله، فرفع رأسه، فنظر إليه ثلاثاً، كلُّ ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاثٍ، ثم أقبل على أصحابه. فقال: "أما كان فيكم رَجُلٌ رَشيد، يقومُ إلى هذا حيث رآني كفَفْتُ يَدي عن بيعته فيقتُلَه؟! " فقالوا: مَا ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألَا أوْمَأْت إلينا بعينِك، قال: "إنه لا يَنْبَغِي لنبيٍّ