للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَنَدَر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - دمه -أي: أهدره-، ولمُ يُندِرْ دمَ غيرِه، فلولا أنهم عَلِموا أن هجاءَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من المعاهدِ مما يوجبُ الانتقامَ منه، لم يفعلوا ذلك.

ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نَدَرَ دَمَه بذلك، مع أن هِجاءَه كان حالَ العهد، وهذا نصٌّ في أن المعاهَدَ الهاجي يُباح دمه.

ثم إنه لَمَّا قدم أسلم في شِعره، ولهذا عَدُّوهُ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقوله: "تَعَلَّم رسول الله"، "ونُبِّي رسول الله" دليل على أنه أسلم قبل ذلك، أو هذا وحدَه إسلام منه، فإن الوثنيَّ إذا قال: "محمدٌ رسول الله" حُكم بإسلامه، ومع هذا فقد أنكر أن يكون هجا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورَدَّ شهادَةَ أولئك بأنهم أعداءُ له، لما بين القَبيلتين من الدماء والحرب، فلو لم يكن ما فَعَلَه مُبيحًا لدمه لَمَا احتاج إلى شيءٍ من ذلك.

ثم إنه -بعد إسلامه- واعتذارِه، وتكذيبِ المخبرين، ومَدْحِه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما طَلَبَ العفو من النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إهْدارِ دمه، والعفوُ إنما يكون مع جَوَاز العقوبة على الذنب، فعُلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له أن يُعاقبَه بعد مجيئه مسلمًا معتذرًا، وإنما عفا عنه حِلْمًا وكرمًا.

ثم إن في الحديث أنَّ نَوْفَلَ بنَ معاويةَ هو الذي شَفَع له إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذكر عَامَّةُ أهل السَّيرِ أن نوفلاً هذا هو رأسُ البكرييِّن الذين عَدَوْا على خُزاعة وقَتَلُوهم، وأعانتهم قريشٌ على ذلك، وبسبب ذلك انتقض عهدُ قريش وبني بكر، ثم إنه أسلم قبلَ الفتح حتى صار يَشفعُ في الذي هَجَا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعُلم أن الهجاءَ أغْلَظُ من نقضِ العهد بالقتال بحيث إذا نَقَض قومٌ العهدَ بالقتال، وآخرون هَجَوا ثم أسلموا، عُصِمَ دَمُ الذي قاتل، وجاز

<<  <  ج: ص:  >  >>