الغِشِّ والخداع، وليتَ شِعري كيف أن هؤلاء الناسَ لم يسألوا أنفسَهم إذا كان النبيّ في الحقيقةِ كاذبًا، فكيف اجترأ على أن يُوجِّه في القرآن إلى الكذَّابين والخادِعين أشدَّ عباراتِ الذمِّ وأقساها؟! وكيف تَوعَّدهم بالنار وسوءِ العذاب؟! وإذا كان كاذبًا في دعوته -كما يَفترون-، فكيف صَمَد للمقاومة أكثَرَ من عَشْرِ سنين، وهو في مكةَ احتَمل في أثنائها الشيءَ الكثيرَ من صُنوف الاضطهادِ والآلام، وهو ذلك الرجل الوديع الهاديء ممن الطباع؟! وكيف تَهيَّأَ له أن ينحازَ إليه طواعيةً واختيارًا -بل وبمنتهى التحمُّسِ- جماعاتٌ كبيرةٌ من رِجالاتِ قريش ونبلائهم، وأن يَنضَووا تحتَ لوائِه مع غيرِهم من السُّوقة والعَبيد.
أمَّا تهمةُ القَسوةُ التي يُوجِّهونها إليه، فمِن السهل دَفعُها لأنَّ محمدًا الذي كان على رأسِ حُكومةٍ، ويتولَّى الدفاعَ عن حياةِ الشعبِ وحريتِه، كان يُحاكِمُ الخارجين على القانون بصرامةٍ وشدةٍ اقتضتهما ظروفُ البيئةِ التي كان يَعيش فيها.
ولقد كان محمدٌ -كرسولٍ يدعو إلى الله رجلاً رحيمًا، ليِّنَ الجانب حتى لأعدائِه الشخصيِّين، وبذلك اجتَمَعت فيه فضيلتانِ كلتاهما أكبرُ الفضائل التي يتصوَّرُها العقل البشري، وهما الرحمةُ والعدالة.
وبحَسبه أن الحربَ -التي هي أقصى ضروراتِ الحياةِ الإنسانية- قد صارت -بفضلِه- أقل وحشيةً وقسوةً، إذ إنه كان يَطلبُ إلى جنوده ألاَّ يَقتُلوا شيخًّا ولا امرأةً ولا طفلاً، ولا يهدموا بيوتًا لم تُتَخذْ كمعاقلَ حربية، وقد أراد أعداء الإسلام أن يُظهِروا النبيّ في صورةٍ رجل شَهْوانيٍّ إباحي، بأن اتخذوا من زِيجاته المتعددةِ حِجَّةً لاتّهامه بضعفٍ خُلُقِيٍّ لا يَتَفق ومركزَ النبوة.