وقد بيَّنَّا هذا في "الفتوحاتِ المكيَّة"، وإذا ذُقتَ هذا: ذُقتَ الغايةَ التي ليس فوقَها غايةٌ في حق المخلوق، فلا تطمعْ ولا تُتعِب نفسَك في أنْ تَرْقَى أعلى من هذا الدَّرَج، فما هو ثَمَّ أصلاً، وما بعده إلاَّ العدمُ المَحض، فهو مرآتُك في رؤيتك نفسَك، وأنت مِرآته في رؤيتِه أسماءَه وظهورِ أحكامها، وليست سوى عَينهِ، فاختلَطَ الأمر وانْبَهَم، فمنا مَن جَهِل في عِلمه، فقال:"والعجزُ عن دَرَكِ الإِدراك إدراك"، ومنَّا مَن علم فلم يقل مثلَ هذا القول، وهو أعلى القول، بل أعطاه العلمُ السكوتَ ما أعطاه العجز، وهذا هو أعلى عالِم بالله.
وليس هذا العِلمُ إلاَّ لخاتَم الرسل، وخاتَم الأولياء، وما يراه أحدٌ من الأنبياء والرسل إلاَّ من مِشكاةِ الرسول الخاتم، ولا يراهُ أحد من الأولياء إلاَّ من مِشكاة الوليِّ الخاتم، حتى إن الرسلَ لا يَرَونه متى رَأَوْه إلا من مشكاةِ خاتم الأوليَاء، فإن الرسالةَ والنبوة -أعني نبوةَ التشريع ورسالته- ينقطعانِ، والولايةَ لا تنقطع أبدًا.
فالمرسَلون من حيثُ كونُهم أولياء: لا يَرَون ما ذكرناه إلا من مشكاةِ خاتم الأولياء، فكيف مَن دونَهم من الأولياء؟ وإن كان خاتَم ُالأولياء تابعًا في الحكم لِمَا جاءَ به خاتمُ الرسل من التشريع، فذلك لا يَقدح في مقامِه، ولا يُناقضُ ما ذَهَبْنا إليه، فإنه مِن وجهٍ يكون أنزَل، كما أنه من وجهٍ يكون أعلى.
وقد ظَهَر في ظاهِرِ شرعنا: ما يؤيِّدُ ما ذَهَبْنا إليه في فَضلِ عمر: في أُسارى بدرٍ بالحُكم فيهم، وفي تأبيرِ النخل؛ فما يَلزمُ الكاملَ أن يكونَ له التقدُّمُ في كلِّ شيء وفي كلِّ مرتبة، وإنما نَظَرُ الرجالِ إلى التقدم في مرتبة العلم بالله، هنالك مطلبهم .. وأما حوادثُ الأكوانِ، فلا تَعَلُّقَ لخواطِرِهم