في البداية لم يكن محمدٌ يلحَظُ إطلاقًا الموقفَ العَدائي الذي تتَّخذه الطوائفُ والكنائسُ المختلفةُ من بعضِها بعضًا، فالفرقُ بين اليهود والمسيحيين، ووجودِ الطوائفِ والكنائسِ العديدةِ التي كانت تُعادِي بعضُها بعضًا خارجَ هذين الدينين، كل ذلكُّ قد بدا في التصوُّرِ الساذج لمحمدٍ أنه يرجعُ إلى اختلافِ الأجناس أو القوميَّات، فقد تصوَّر البشريةَ -من حيث إنها تَملكُ نِعمةَ الوحي- مقسَّمةً في "جماعات" يمكنُ أن تتميزَ كُتبُها وألواحُها في الشكل والمضمون، ولكنها جميعًا قد جاءت وحيًا من لَدُنْ إلهٍ واحدٍ وللغاية ذاتها.
وقد تأسست كل جماعةٍ -في رأيه- عن طريقِ إنسانٍ اصطفاه اللهُ من بين شَعبِه، وتَحمَّل مُهمَّةَ دعوةِ قومِه إلى كلمةِ الله بوصفه نبيًّا ومبعوثًا أو نذيرًا، وهناك عددٌ كبيرٌ من الأنبياء، وليس بينَهم فرقٌ جَوهريٌّ، ولم يَكُنِ اصطفاْءُ محمدٍ للعرب -في نظرِ محمدٍ - أمرًا مختلِفًا عن اصطفاءِ الأنبياءِ السابقين، فقد كان كلُّ منهم مختارًا لشَعبِه الذي ينتمِي إليه (١).
(١) لم يكن ذلك كلُّه اجتهادًا من محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، بل كان وحيًا تلقَّاه من ربه -عز وجل-، وفي هذا الوحي تأكيدٌ على وِحدةِ الأصل البشري وإشارةٌ إلى أن اللهَ سبحانه وتعالي قد جَعل الناسَ شعوبًا وقبائلَ لكي يتعارفوا، وجعل أكرَمَهم عنده أتقاهم، كما أشار الوحيُ إلى أنه ليست هناك أمَّةٌ إلاَّ خلا فيها نذير، وأن اللهَ قد أَرسل إلى كلَّ أمَّةٍ رسولاً بلسانِ قومه، وهناك آياتٌ قرآنيةٌ عديدة توضحُ هذه القضيةَ بجِلاء، ثم كانت رسالةُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - رسالةً عامةً للناس جميعًا، وليس للعرب فقط -كما يزعُم "هورجرونيه"-، وفي أولِ إعلانٍ جَهريٍّ بالدعوة أعلن محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه أُرسِلَ إلى العرب -خاصةً- وإلي الناس- كافةً-، وجاء ذلك في الوحيِ المكيَّ أيضًا في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: ٢٨]، وفي قوله تعالي: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: ١