وهكذا كان في وُسع محمدٍ أن يفترضَ بلا عَناءٍ أنَّ أتباع الدينَينِ القائمينِ الموحَى بهما يُمكنُهم أن يعترفوا به بوصفِه نذيرًا مرسَلاً من الله للغرب، دون أن يَلحَقَ ذلك أيُّ ضررٍ بمعتقداتهم (اليهودية والمسيحية)، ولكن عندما اتَّصل محمدٌ باليهود في المدينة اتصالاً مباشرًا كان لابدَّ له حينئذٍ أن يَعرفَ أن اليهودَ الحقيقيين والمسيحيين الحقيقيين لن يَعترفوا إطلاقًا بأصالةِ بَعثتِه الدينية.
ولكنْ نظرًا لأنه من ناحيتِه كان مقتنعًا بشرعيةِ بعثتِه، وكان يعتقدُ أنها من جِنسِ بَعثةِ موسى وعيسي وأسلافهما، فقد أدَّى به ذلك بطبيعةِ الحال إلي نتيجةٍ مؤدَّاها أنَّ اليهودَ والمسحيين قد فَسَّروا الوحيَ الذي لديهم تفسيرًا سيئًا، وعليه إذن أن يقومَ بواجبِ تصحيحهم! وتلك مهمةٌ صعبةٌ لمن لم يَستطعْ أن يقرأَ كُتبَهُم المقدَّسةَ، وكانت لديه أيضًا فضلاً عن ذلك مفاهيم مشوَّشةٌ عن طبيعةِ هذه الكُتبِ وعن مضمونها (١).
وفي الفترةِ الثانية من نشاطِه شَرعَ محمد أيضًا شروعًا حقيقيًّا في التعرُّف بعضَ الشيءِ عن قُربٍ على التاريخ التقليديِّ الموروثِ للوحي السابق، وحَصَل -مع بعض التغييرات الضرورية- على ما أمكن أن يَخدُمَه في التحرُّرِ من اليهودية والمسيحية اللتين استَشهَدَ بهما في السابق أكثَرَ من
(١) لم يكن محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - في حاجه إلى قراءةِ كُتبِ اليهود والنصارى، ولم تكن لديه معلوماتٌ مشوَّشةٌ عن تلك الكتب؛ لأن الله الذي أنزل التوراة والإنجيل هو نفسُه الذي أخبَرَ محمدًا عن طريقِ الوحي بما طَرَأ على هذين الدينينِ من تحريفٍ وتبديل، وبين له طبيعةَ هذا التحريف.