للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مرةٍ على حقيقةِ بَعثته، ولم يكن في ذلك الاستشهادِ شيءٌ من الحِكمة (١).

ولن نَقِفَ عند المراحل الجزئيةِ لعمليةِ التحرُّر هذه، وسنقتصرُ على إثباتِ أن محمدًا لم يتوصَّلْ إلى حَل المشكلةِ دَفعة واحدةً، بل تمَ ذلك بالتدريج شيئًا فشيئًا، ففي حين كان إبراهيمُ يُعَدُّ في الوحيِ السابق [الذي نزَل على محمد] واحدًا من أسلافِ محمدٍ العديِدينَ فحسب، يُصبحُ الآن [بالنسبة لمحمد] رائدَه ومَثَلَه الأعلى على الإطلاق، وقد استَمدَّ إبراهيمُ هذه المنزلةَ العالية لدى محمدٍ من أمرينِ توصَّل محمدٌ إلى معرفتِهما أولاً في المدينة.

الأمرُ الأول: يتمثلُ في أن إبراهيمَ -الذي يُقدسُه اليهودُ والمسيحيون بنفس الطريقةِ بوصفِه "رجلَ الله"- لم يكن يهوديا ولا مسيحيًّا (٢)، وكونُ محمدٍ قد جَعل اصطفاءَه مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بتلك الأبوَّةِ، مَكَّنه مِن تفادِي اتهاماتِ اليهودِ الذين رَمَوه بأنه لم يُراع شريعتَهم مراعاةً تامةً، واتهاماتِ المسيحيين أيضًا الذين عارَضوه بعقيدةِ الخلاصِ عن طريق المسيح وحدَه.


(١) ما يقوله "هورجرونيه" في كلِّ تفصيلاته حولَ موضوِع علاقةِ محمد - صلى الله عليه وسلم - باليهودية والمسيحية مبني على افتراضِ أن الإسلامَ دين بشري تفتَق عنه ذهنُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ومِن هنا نجدُ هذا الحِرصَ الشديدَ على تفسيرِ كل شيءٍ من هذا المنطلق، وبناءً على هذا الفَرض الذي يَعُدُّه المستشرقون حُجَّة مسلَّمة، فالأمرُ إذن يدورُ حولَ رفض مُسبَقٍ للإسلام بوصفه دينًا سماويًّا، وهذا الرفضُ ليس له من علاج إلا دراسةُ الإسلام دراسةً نزيهةً محايدةً دون أن تكون هناك أوهام وتصورات أو أحكام سابقة.
(٢) لم يكن ذلك معرفةً تَوصَّل إليها محمدٌ، بل كان وحيًا قرآنيًّا جاء في قوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: ٦٧].

<<  <  ج: ص:  >  >>