أما الأمر الثاني: فقد كان يَتمثَّلُ في أنَّ محمدًا قد عَرَف أن الكتابَ المقدَّس قد جَعَل من إبراهيمَ الأبَ الأولَ للعرب، وهكذا كان محمدٌ يَميلُ بطبيعةِ الحال إلى الاستنادِ إلى أبي الجِنس الذي ينتمي هو إليه، وقد وَصف محمدٌ نفسَه من الآنِ فصاعِدًا بأنه ذلك النبي الذي جاء لإكمالِ العمل الذي بدأه الأبَوانِ إبراهيمُ وإسماعيل، فالإسلامُ الذي دعا إليه محمدٌ كان هو نفسَه تمامًا ذلك الذي دعا إليه إبراهيم، وقد كان إبراهيمُ -الأبُ الأولُ للعرب- مثلَ محمدٍ تمامًا مُسلِمًا وحَنِيفًا، ولكن إبراهيمَ لم يكن بالنسبةِ لمحمدٍ المحرِّرَ من اليهوديةِ والمسيحية فحسب، فقد خَدَم النبي الأبُ محمدًا أيضًا في إدخالِ طقوسِ العبادةِ المَكيَّةِ في الإسلام بعدَ أن خَلَّصها من بعضِ المراسِم التي تكشِفُ بوضوح عن أصلٍ وَثَني.
وكان إبراهيمُ قد دَفع بإسماعيلَ وأمه إلى بلاد العرب، وفي وُسع المرءِ إذن أن يَفترضَ أنهما قد جاءَا إلى مكةَ وأسسا الكعبةَ هناك بِناءً على أمر إلهيٍّ، وهذا الافتراضُ يَتضمَّنُ بطبيعةِ الحال أن نَسْلَ إسماعيلَ قد أفسَدَ بصفةٍ عامةٍ العبادةَ والدينَ بطريقةٍ مُزعجة.
إنَّ صِلاتِ محمدٍ باليهوديةِ والمسيحية -كما وصفناها هنا- وتاريخَ تطوُّرِ أسطورةِ إبراهيمَ في عَقِل محمدٍ بصفةٍ خاصة-، كلُّ ذلك يَستبعدُ الآنَ تمامًا الرأيَ الذي يَذهبُ إلى القولِ بأن دَعوةَ محمدٍ قد استَندت إلى جماعةِ الحنفاءِ الذين كانوا مِن قَبلِه يَدْعُون إلى شيءِ من اليهودية والمسيحية تحت اسم "دين إبراهيم"(١).
(١) لقد ورد ذكرُ إبراهيمَ عليه السلام في القرآن في تِسع وستين موضعًا، منها اثنتانِ وثلاثون مرةً في =