إنما هي فتراتٌ مَرَضيَّةٌ، أو هي الصَّرَعُ، وبرغم تكذيبِ الطب لمزاعمهم مستنِدًا إلى الاختلافِ الكُلي بين أعراضِ الصَّرَع وأعراضِ الوحي، فقد أعماهم التعصُّبُ عن رؤيةِ الحقيقة.
° وإليهم يقول الكونت:"ومن ذلك الحِينِ -أي البَعثة- أخذت شفتاه تَنطلقُ بألفاظٍ بعضُها أشدُّ قوةً وأبعدُ مرمًى من بعض، والأفكارُ تتدفَّقُ من فَمِه على الدوام، إلى أن يَقِفَ لسانُه ولا يُطيعه الصوت، ولا يَجِدُ من الألفاظِ ما يُعبِّرُ به عن فِكرٍ قد ارتفع عن مدارِكِ الإنسان، وسما عن أن يُترجِمَه قَلَمٌ أو لسان.
وكانت تلك الانفعالاتُ تَظهرُ على وجهِه باديةً، فظَن بعضُهم أن به جِنَةً!! وهو رأيٌ باطل؛ لأنه بدأ رسالتَه بعد الأربعين، ولم يُشاهَدْ عليه قَبلَ ذلك أي اعتلالٍ في الجسم أو اضطرابٍ في القوة المادية، وليس مِن الناس مَن عَرف الناسُ جميعًا أحوالَه في حياته كلها مثلُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلقد وَصل المُحدِّثون عنه إلى أنهم كانوا يَعُدُّون الشَعْرَ الأبيضَ في لِحيته، ولو أنه كان مريضًا لَمَا أَخفى مَرَضَه؛ لأن المرضَ في مِثل تلك الأحوالِ يُعتبرُ أمرًا سماويًّا عند الشرقيين.
وليست حالةُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وانفعالاتُه وتأثراتُه بحالةِ ذي جِنَّة، بل كانت مِثلَ التي قال نبيُّ بني إسرائيلَ في وصفها: لقد شَعُرتُ بأن قلبيَ انكسَرَ بين أضلُعي، وارتَعَشت مني العِظام، فصِرتُ كالنَّشوان، لِمَا قام بي من الشعورِ عند سماع صوتِ الله وأقواله المقدسة" (١).