بل كان كلَّما جُمع إليه شيء منه أنفقه في الصدقات، وكان قد أعطى عائشةَ مالاً يسيرًا لِتَحفَظَه، فلما حَضَره المرض أَمَر بإنفاقِه على المُعوِزِين لساعته، وغاب في سِنَةٍ، ولَما أفاق سألها إن كانت أنفَذَت أمرَه، فأجابته:"كلا"، فأمر بالنقود وأشار إلى الأُسَرِ المُعوِزات، فَوزع عليهم، وقال:"الآن استراح قلبي، فإنني كنت أخشى أنْ أُلاقِيَ ربِّي وأنا أَملِكُ هذا المال".
وكان في مرضه يَخرجُ كلَّ يوم ليُصلِّيَ الظهرَ بالناس، وآخِر يومٍ خَرَج فيه هو الثامنُ من شهرِ يونية سنة ٦٣٢ م، وكانت مِشيتُه مضطربةً، فتوكَّأ على الفَضلِ بن العباسِ وعليِّ بنِ أبي طالب، وقَصَد مِنبرَ الخطابةِ الذي كان يَعِظُ الناس عليه قَبْلَ الصلاة، وحَمِدَ اللهَ، وأثنى عليه، ثم خَطب في المسلمين بصوتٍ رفيع سَمِعه مَن كان خارجَ المسجد، فقال:"يا أيها الذين تسمعون قولي، إن كنتُ ضَربتُ أحدَكم على ظَهرِه، فدونَه ظَهري فلْيَضْرِبْه، وإن كنت أسأتُ سُمعةَ أحدٍ فلْينتقمْ مِن سُمعتي، وإن كنتُ سَلبتُ أحدًا مالَه، فإليه مالي يقتصُّ منه، وهو في حِلٍّ من غَضَبي، فإنَّ الغِلَّ بعيدٌ عن قلبي".
ثم نَزَل مِن على المنبر، وصلَّى بالجماعة، ولَمَّا أراد الانصرافَ أَمسك به رجل مِن إزاره، وطلب منه ثلاثةَ دراهمَ دَينًا له، فأدَّاها على الفور قائلاً:"لَخِزيُ الدنيا أهون من خِزي الآخرة".
ثم دعا لِمن حارَبَ معه في "أُحد"، وسأل اللهَ لهم الرحمةَ والغفران.
وكان مَشهدُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بين المؤمنين في ذاك اليوم مَشْهَدَ جلالٍ ووقار، والناس يلمَحون على وجهِه تأثيرَ السُّمِّ الذي شَرِبه من يدِ يهوديةِ خيبر، وقلوُبهم مُنفطِرةٌ من الوَجدِ عليه، ذلك أنه لَمَّا كان في واقعةِ "خيبر" قَدَّمت