يَلتفتْ جانبًا، ولا تجاوَزَ ما رآه، وهذا كمالُ الأدب .. والإِخلالُ به أن يلتفتَ الناظرُ عن يمينه وعن شماله، أو يتطلَّعِ أمامَ المنظور، فالالتفاتُ زَيْغ، والتطلُّعُ إلى ما أمامَ المنظور طغيانٌ ومجاوزَة؛ فكمالُ إقبالِ الناظرِ على المنظور: أن لا يَصْرِفَ بَصَرَه عنه يَمنة ولا يَسْرةً، ولا يتجاوزه.
وهذا معنى ما حصَّلْتُه عن شيخ الإسلام ابن تيمية -قدَّس الله روحه-.
وفي هذه الآيةِ أسرارٌ عجيبة، وهي من غوامضِ الآداب اللائقةِ بأكمل البَشَر - صلى الله عليه وسلم -؛ تواطأ هناك بَصَرُه وبَصيرتُه، وتوافَقَا وتصادقَا فيما شاهَدَه بصرُه، فالبصيرةُ مواطئةٌ له، وما شاهَدَته بصيرتُه فهو أيضًا حقٌّ مشهودٌ بالبصر، فتواطأ في حقهَ مَشهَدُ البصر والبصيرة.
* ولهذا قال سبحانه وتعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (١١) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم: ١١، ١٢]، أي: ما كَذَب الفؤادُ ما رآه ببصره.
ولهذا قرأها أبو جعفر:"ما كَذَّب الفؤادُ ما رأى" -بتشديد الذال-، أي: لم يُكذِّب الفؤادُ البصرَ، بل صَدَّقَه وواطأه؛ لصحَّةِ الفؤادِ والبصر، أو لاستقامةِ البصيرةِ والبصر، وكوْنِ المرئيِّ المشاهَد بالبصر والبصيرة حقًّا.
وقرأ الجمهور {ما كذَب الفؤاد} -بالتخفيف-، وهو مُتَعَدٍّ، و"ما رأى" مفعوله؛ أي: ما كَذَّب قلبُه ما رأته عيناه؛ بل واطأه ووافَقَه، فلمواطأةِ قلبهِ لقالَبه، وظاهرِه لباطنه، وبصره لبصيرته؛ لم يُكذِّبِ الفؤادُ البصرَ، ولم يتجاوزِ البصرُ حدَّه فيطغى، ولم يَمِلْ عن المَرْئيِّ فيَزيغ؛ بل اعتدلَ البصرُ نحو المرئي، ما جاوَزَه ولا مال عنه، كما اعتَدَل القلبُ في الإِقبالِ على الله