والأعراضِ عَمَّا سواه؛ فإنه أقبل على الله بِكُلِّيَّتِهِ.
وللقلب زَيْغ وطغيان، كما للبصر زَيْغ وطُغيان، وكلاهما مُنتفٍ عن قلبه وبصره، فلم يَزغْ قلبُه الْتفاتًا عن الله إلى غيره، ولم يَطْغَ بمجاوزتِه، وهذا غايةُ الكمالِ والأدبِ مع الله، الذي لا يَلحقُه فيه سواه، فإن عادةَ النفوسِ إذا أُقيمتْ في مقامٍ عالٍ رفيع: أن تتطلَّع إلى ما هو أعلى منه وفوقه؛ ألَا ترى أن موسى - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا أُقيم في مقامِ التكليم والمناجاة طَلبت نفسُه الرؤية؟! ونبينا - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا أُقيم في ذلك المقام، وفَّاه حقَّه، فلم يلتفتْ بصرُه ولا قلبُه إلى غيرِ ما أُقيم فيه ألبتة؟! ولأجل هذا ما عاقَه عائقٌ، ولا وَقَف به مرادٌ، ولَم تَقِفْ به دونَ كمال العبودية هِمَّةٌ، ولهذا كان مركوبُه في مَسْرَاه يَسبقُ خَطْوُهُ الطرْفَ، فيضع قدمَه عند منتهى طرْفه، مُشاكِلاً لحال راكبه وبُعْدِ شأوه، الذي سَبَق العالَمَ أجمعَ في سَيْره، فكان قَدَمُ البُراق لا يَختلفُ عن موضع نظَرِه، كما كان قَدَمُه - صلى الله عليه وسلم - لا يتأخَّر عن محلِّ معرفته.
فلم يزلْ - صلى الله عليه وسلم - في خِفارةِ كمالِ أدبه مع الله سبحانه، وتكميلِ مراتب عبوديته له، حتى خَرَق حُجُبَ السموات، وجاوَزَ السبْعَ الطِّباق، وجاوَزَ سِدْرةَ المنتهى، ووصل إلى محلٍّ منَ القُرْب سَبَق به الأوَّلين والآخرين، فانصبّتْ إليه هناك أقسامُ القُرْب انصبابًا، وانقَشَعت عنه سَحائبُ الحجُب -ظاهرًا وباطنًا- حِجابًا حجابًا، وأُقيم مقامًا غَبَطَهُ به الأنبياءُ والمرسلْون؛ فإذا كان في المعاد، أُقيم مقامًا مِن القرْب ثانيًا، يَغبِطُه به الأوَّلون والآخرون ..
واستقام هناك على صراطٍ مستقيم مِن كمالِ أدبهِ مع الله، ما زاغ البصر عنه وما طغى، فأقامه في هذا العالَم على أقومِ صراطٍ من الحقِّ والهدى، وأقسم بكلامِه على ذلك في الذِّكر الحكيم، فقال تعالى: {يس (١) وَالْقُرْآنِ