وهؤلاء عندهم ما يحصلُ للنبيِّ من المكاشفة والخطاب هو من جنسِ ما يحصُلُ للساحر والمجنون، لكنَّ الفَرْقَ بينه وين الساحر: أنه يأمرُ بالخير، وذلك يأمر بالشر، والمجنون ما له عقل، وهذا القَدْرُ الذي فرقوا به موجودٌ في عامةِ الناس، فلم يكن عندهم للأنبياء مَزِيَّةٌ على السحَرة والمجانين إلاَّ ما يُشاركُهم فيه عمومُ المؤمنين، وكذلك ما أثبتوه من القوَّةِ الفعَّالةِ المتصرِّفة، هي عندهم تَحصلُ للساحر وغيرِه، وذلك أنهم لا يَعرِفون الجنَّ والشياطين، وقد أَخبروا بأمورٍ عجيبة في العالَم، فأحالوا ذلك على قوَّةِ نفسِ الإنسان، فما يأتي به الأنبياءُ من الآيات، والسَّحَرةُ والكُهَّانُ وما يُخبِرُ به المصروعُ والممرورُ: هو عندهم كله من قوَّةِ نفسِ الإنسان، فالخبرُ بالغيب هو لاتِّصالها بالنفسِ الفَلَكية، ويُسمونها "اللوح المحفوظ"، والتصرُّفُ هو بالقوة النفسانية، وهذا حِذقُ ابن سينا وتصرُّفه لَمَّا أَخبر بأمورٍ في العالَم غريبة لم يُمكِنْه التكذيبُ بها، فأراد إخراجَها على أصولهم وصَرَّح بذلك في "إشاراته"، وقال:"هذه الأُمور لم نُثبتها ابتداءً، بل لَما تحققنا أن في العالَم أمورًا من هذا الجنس أردنا أن نبين أسبابها".
وأما أرسطو وأتباعُه، فلم يعرِفوا هذه الأمور الغريبة، ولم يتكلَّموا عليها ولا على آياتِ الأنبياء، ولكنْ كان السحرُ موجودًا فيهم، وهؤلاءِ من أبعدِ الأُمم عن العلوم الكلية والإلهية، فإنَّ حدوثَ هذه الغرائبِ من الجنِّ واقترانَهم بالسَّحَرةِ والكهَّان مما قد عَرَفه عامَّةُ الأمم وذكروه في كتبهم غيرُ العرب، مثل الهند والترك وغيرهم من المشركين وعُبادِ الأصنام وأصحابِ الطلاسم والعزائم، وعَرفوا أن كثيرًا مِن هذه الخوارق هو مِن الجنَّ