سَنَد القرآن أعظمَ تزكية، فلهذا قال سبحانه:{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ}[التكوير: ٢٥]، ليس تعليمَ الشيطان، ولا يَقدِرُ عليه، ولا يحسُنُ منه، كما قال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (٢١٠) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء: ٢١٠، ٢١١]، فنفى فِعْلَه وابتغاءَه منهم، وقدرَتهم عليه.
وكلّ مَن له أدْنى خِبرةٍ بأحوالِ الشياطين والمجانين والمُتَّهَمِين، وأحوالِ الرُّسل يَعلمُ عِلْمًا لا يُمارِي فيه ولا يشك -بل عِلْمًا ضَرُورِيًّا كسائر الضرورِيَّات- منافاةَ أحدِهما للآخَر، ومضادَّته له، كمنافاةِ أحدِ الضدَّيْن لصاحبه، بل ظهورُ المنافاة بَيْن الأمْرَين للعقل، أَبْيَنُ من ظهورِ المنافاة بين النور والظلمة للبَصَر، ولهذا وَبَّخ سبحانه مَن كَفَر بعد ظهور هذا الفَرْقِ المُبين بين دعوة الرّسل ودعوة الشياطين، فقال:{فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ}[التكوير: ٢٦]، قال أبو إسحاق: فأيَّ طريق تسلكون أَبْيَنَ من هذه الطريق التي بَيَّنت لكم؟، وقال تعالى:{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}[المرسلات: ٥٠]، وقال:{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ}[الجاثية: ٦].
فالأمر منحصرٌ في الحق والباطل، والهدى والضلال (١) .. {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}[يونس: ٣٢].
* * *
(١) انظر "التبيان في أقسام القرآن" لابن القيم (١١٤ - ١٣٠).