فلما سلم الدرويش، نظر إلى صاحبه وقال: احفظ الله يحفظك، أما قلت لك سيكفينا الله شرهم.
تالله إنها لحالةٌ عجيبة يجب على كل مؤرخ سطرها وإثباتها تطلعك على عناية الله بأوليائه، وأنه الثائر لهم، ومن عاداهم فقد بارز الله بالمحاربة، ومن حارب الله غلب وخذل، فانظر إلى تلك الخارقة وتلك الثقة التي صدرت عن قوة إيمان وصدق توكل، وما أحسن ما قال بعضهم:
ما بال دينك ترضى أن تدنسه ... وأَن ثوبك مغسولٌ من الدنس
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجري على اليبس
ودعا مرةً رجلًا من أهل الديانة فقال له: أتحسن الكتابة يا أخي؟ فاستحيا منه بأنه يكتب فقال: له أئتني بدواة ورقة فاتا بهما فقال: اكتب: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من عبد الكريم الخراساني إلى عبد العزيز بن متعب بن رشيد، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فقد قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص: ٤١، ٤٢]، وجعله في ظرف وبعث به إليه.
وبعث إليه عشرين ريالًا بعض أمراء القصيم، وقال للخادم قل له يستعين بها على بعض مؤنه الدنا فإنها من عون العبد لأخيه، وهذا الأمير هو عبد الله بن جلوي فلما أن وردت عليه أخذ منها ريالًا واشترى به نعلًا لابنه وبعث ببقيتها إلى الأمير مع الخادم، وقال له: قل للأمير أني أخذت لابني ريالًا وهذه بقيتها جعله الله يكوى بها في نار جهنم، يأخذون الأموال ظلمًا ويتجملون بها، قل له يردها على أربابها الذين أخذها منهم.
ولما رجع بها الرسول إلى الأمير سأله ما الذي منعه من أخذها وبأي شيء أجاب؟ وقال يا سيدي: إنه ردها ولا حاجة إلى ذكر هذيانه، فألجأه إلى أن يخبره بكلامه، فلما أخبره جعل ردائه على فمه وضحك ضحكًا شديدًا وجعل يفكر في مقالته.